الاثنين، 3 سبتمبر 2012

نظرات في الاستدلال بالعدم


الحمد لله رب العالمين .. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.. سيدنا محمد الهادي الأمين صلوات ربي وتسليماته عليه وبعد:
          ففي هذه الورقة نحاول أن نعالج ضربًا من الاستدلال فشا لدى طائفة من أهل الخير والصلاح والغيرة الدينية. وهذا الضرب من الاستدلال حاصله الاحتجاج بعدم فعل المعصوم –صلى الله عليه وآله وسلم- فعلا معينًا من الأفعال على بدعية هذا العمل ومن ثم الحكم بتحريم هذا العمل أو كراهته. ومن الوفاء للحقيقة أن نقرر أنهم ليسوا مبتدعي هذا الضرب من الاستدلال بل هم مسبوقون ببعضٍ من أكابر أهل العلم إلا أنهم كانوا لا يمثلون التيار العام لدى علماء المسلمين وإنما كانوا يمثلون أقلية محدودٌ أثرها للغاية. وصحة الآراء في نهاية الأمر لا تتوقف على كثرة أو قلة فقد يكون الصواب في جانب تلك القلة وإنما الصحة تعرف بما يرجحه الدليل ويؤيده البرهان.
          ولا يخلو حال المستدل من أحد أمرين إما أن يحتج به في أمر ديني أو في أمر دينوي. ونعني بالدنيوي ما يمكن أن يستقل العقل بإدراكه –كالاختراعات ومواضعات أهل الفنون ونحوها- وقيدنا بقيد الإمكان لإدخال ما سبق الشرع بتقريره وكان بإمكان العقل أن يدركه حتى لو لم يرد الشرع به، لكن لا يتقرر الثواب والعقاب في كل الأحوال إلا من جهة الشرع لأنا لا نقول بالتحسين والتقبيح العقليين كما هو مقرر في أصول الدين. ونعني بالديني ما لا يعلم إلا من جهة الشرع كالصلوات والزكوات وسائر العبادات وكمقادير الديات ونحو ذلك.
إذا تقرر ما سبق فنقول: لا جائز أن يحتج به في الدنيويات لأنها على البراءة الأصلية كما هو متقرر في راجح الآراء الأصولية ومدار الحكم فيها على قاعدة المصالح والمفاسد ولسلطان العلماء –العز بن عبد السلام- القدح المعلى في تفصيل هذه القاعدة.
          فلم يبق إلا أن يكون الكلام منصبًا على الأمور الدينية، والدينية إما أن يتناولها نص بطريق الخصوص وإما بطريق العموم وإما بطريق الإلحاق على خلاف معتبر  في الأخير بين علماء أصول الفقه (ليس الخلاف في حجية نفس الإلحاق كدليل ولكن فيما يمكن إلحاقه). ثم هذا الديني إما أن يكون مقررًا على سبيل التوقيف كأعداد ركعات الظهر مثلاً أو لا وعندئذٍ يعطى من الحكم بحسب ما يقرره الدليل كما هو معلوم من كتب الفقه في المسائل التفصيلية.
          نعود إلى كلام القوم المبدعين فنقول: إذا تأملنا دليلهم السابق وهو أن عدم الفعل دليل على بدعية الفعل وجدناه ليس بدليل أصلاً لأن الدليل الصحيح لابد لدليليته أن يكون منتجًا وإلا كان فاسدًا، فهل المقدمات المذكورة تعطي تلك النتيجة؟ لو حاولنا أن ننظم الدليل السابق في صورة قياس منطقي لقلنا: هذا لم يفعله المعصوم، وكل ما لم يفعله المعصوم يكون مكروهًا أو حرامًا فالنتيجة هذا الفعل مكروه أو حرام. أما المقدمة الأولى فلا كلام لنا فيها إذ مدار تحققها على معرفة هل فعل المعصوم أو لم يفعل. أما المقدمة الثانية ففيها كل النقاش إذ كيف يستفاد التحريم أو الكراهة مما ذكر؟ فالكراهة والتحريم حكمان من أحكام التكليف الخمسة وأحكام التكليف الخمسة إما أن تستفاد من النص أو بالرد إلى النص.
          والنص إما أن يكون قرآنا أو سنة، والسنة إما قول أو فعل أو تقرير مما يصلح أن يستفاد منه حكم شرعي. وهنا يحق لنا أن نسأل: أين يقع عدم الفعل فيما سبق؟ بدهي ألا نجد عدم الفعل في واحد مما سبق.
فإن قال قائل: فأين يقع الكف إذن؟
قلنا: يقع تحت قسم الفعل؛ لأن كف النفس فعل من الأفعال.
أما عدم الفعل فتحته أفراد ومن جملة هذه الأفراد عدم الفعل لعدم الخطور بالبال، أو رغبة عن الشيء إلى ما هو أفضل منه مع كون المرغوب عنه جائزًا في نفسه، أو لكونه مما تعافه نفسه –صلى الله عليه وآله وسلم-؟، أو لكونه ليس من متعارف قومه، أو أنه تركه لئلا يجب أو يندب فنكثر التكاليف، أو تركه لكون المتروك مكروهًا أو حرامًا، أو لغير ذلك من الاحتمالات.
وعدم فعل أمر من الأمور بسبب كونه مكروهًا أو حرامًا هو المسمى في لسان الأصوليين كفًا، فالكف وإن كان ظاهره عدم فعل إلا أن حقيقته قصدٌ إلى الترك. والخروج من عهدة التحريم أو الكراهة يحصل بمجرد عدم الفعل ولو لم يصحبه قصد لكن لا يستحق ثواب تارك المحرم أو المكروه إلا إذا قصد إلى تركه امتثالاً أي لداعية الشرع. فإذا لم يكن ثم دليل على الكراهة أو التحريم فمن أين لنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قصد إلى الترك لداعية الشرع؟
فإن قيل: لا حاجة إلى معرفة حصول القصد من عدمه لأنه يمكن أن يُخرج من عهدتهما بمجرد عدم الفعل.
قلنا: إذا ثبت التحريم أو الكراهة جاز أن يُخرج من عهدتهما بمجرد عدم الفعل كما قلتم، لكن إذا لم يثبت فكيف يُخرج من عهدة أمرٍ لم يثبت. فلم يبق إلا إثبات العهدة بنفس عدم الفعل الذي تقولون إنه كافٍ في الخروج من العهدة. فصار العدم مثبتًا للعهدة مخرجًا منها وهو باطل وما أدى إلى الباطل يكون باطلاً.
          وثمة أمر آخر وهو كيف يكون هذا الذي لم يفعل مكروهًا أو حرامًا ولا يبينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعلوم أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فكيف يُترك البيان أصلاً فعدم البيان علامة على عدم المبين، وعدم المبين معناه أنه لا حكم يستفاد من العدم حتى يمكن أن نسحبه على فعلٍ ما. ولما كان من المتقرر لدى أهل الأصول أن لله في كل أمر حكمًا فالحكم على هذا الفعل الذي لم يفعله المعصوم صلوات ربي وتسليماته عليه يحصل بإحدى الطرق المعروفة في علم أصول الفقه إما بتقرير البراءة الأصلية مثلا أو بالإلحاق أو غير ذلك.
          فإن قال قائل: ألا يمكن أن نترك هذا الفعل احتياطا على اعتبار أن التحريم أو الكراهة احتمالان من جملة الاحتمالات فيكون الترك حينئذٍ واجبًا أو مندوبًا.
قلنا: الجواب من وجوه:
الوجه الأول: أنا لا نسلم أن هذا الاحتمال قائم بل هو بعد التأمل فيه وجدناه معدومًا كما تقرر آنفًا؛ لأنه يلزم منه أن يكون العدم مثبتًا للعهدة مخرجًا منها في آنٍ واحد وهو باطل. ولأنه يلزم منه عدم البيان وعدم البيان فيما يحتاج إلى البيان غير جائز، واحترزنا بهذا القيد الأخير؛ لأن الإجمال ربما كان مقصودًا وتكون فائدته (ووجود الفائدة غير واجب على ما هو المعتقد الحق، وإن كانت الشريعة كلها لا تخلو عن الفائدة لكن الشارع راعاها تفضلاً لا وجوبًا) حينئذٍ مجرد اعتقاد الحقية. لكن ما نحن فيه لا يفتقر إلى بيان أصلاً؛ لأنه غير موجود فكيف يمكن أن يكتسب العدم وصفًا وجوديًا؟ فلا يوجد شيء أصلا حتى يكون محلاً للإجمال. لكن المعدوم إن برز إلى حيز الوجود بفعل آحاد الناس أمكن أن نجتهد في معرفة وصفه الثبوتي عن طريق الآلة الأصولية.
الوجه الثاني: سلمنا لكن احتمال الكراهة أو التحريم احتمالان من جملة احتمالات كثيرة فلم رجحتم الأقلي على الأكثري؟
فإن قلتم: ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام.
قلنا: شرطه أن يكون الحلال والحرام كلاهما ناشئًا عن دليل حتى يحصل الاعتبار ثم التعارض. أما إن كانت الاحتمالات جميعها مجرد احتمالات عقلية غير ناشئة عن دليل فلم تكن معتبرة فضلاً عن أن تكون متعارضة.
الوجه الثالث: سلمنا رجحان احتمالي الكراهة والتحريم لكن كيف نرجح بينهما؟ إن قلنا يترجح التحريم احتياطًا فهذا يفضي إلى تحريم متوسع لم يعهد مثله من الشارع الحكيم وكل اجتهاد أدى إلى مناقضة معهود الشارع -المقطوع بكونه معهودًا له- كان باطلاً. فلم يبق إلا ترجيح الكراهة لكن هذا أيضًا يفضي إلى توسيع دائرة المكروهات بما يناقض معهود الشارع فبطل.
فإن قال قائل: لكنا نرى أئمة السلوك الصوفي يقولون: المكروه عند الفقهاء حرام عندنا، والمندوب عندهم واجب عندنا بل ربما تنزهوا عن كثير من المباحات.
فجوابه أن يقال: المكروه الذي عدوه محرمًا هو المكروه الذي ثبتت كراهته، والمندوب الذي عدوه واجبأ هو المندوب الذي ثبت ندبه وهذان غير ما نحن فيه. ثم التحريم الصوفي بينه وبين التحريم الفقهي عموم وخصوص مطلق. فالمكروه الفقهي الذي هو  جزء من المحرم الصوفي يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله لدى الجميع لكن لا ينال الثمرة –بحسب العادة- إن قارفه.
وهو في حقيقته إلزام للنفس وإرشاد أو إلزام لمن حسن الظن بشيوخ التسليك وليس إلزامًا من جهة الشرع وإنما هو إلزام كما قررنا من جهة النفس كمن التزم قيام الليل وجرب أثره فعده من قبيل الواجبات ثم حدث غيره بما حصل له من نفع فقلده ثم كان لهذا المقلد تجربته الخاصة. وهذا المسلك لا يكون فيه إنكار عام على من خالفه إذ مخالفة الإلزام ليست من المنكر في شيء ولكن يتأتى فيه الإنكار الخاص على نوع خاص كما يكون من الشيخ المربي مع المريد.
فإن قيل: لكن نفوسنا تكره أن تفعل فعلا لم يفعله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
قلنا: هذه الكراهة ليست واحدة من الأحكام الخمسة لأنها ليست كراهة الشارع وإنما هي كراهة المتشرع وهي كراهة تقابل الحب ومنشأ تلك الكراهة محبة التأسي بالمعصوم في ما يفعل من تشريع أو عادة وفي ترك ما لم يفعله. وما كان هذا سبيله فلا ينكر على صاحبه إن التزمه كسلوك شخصي لكن أيضًا لا يجوز لصاحبه أن ينكر فيه على غيره. لكن يتأتى فيه الإنكار الخاص على نوع خاص، بيد أن الإنكار الخاص ليست مرتبة مبذولة لكل الخلق وإنما هي مرتبة رفيعة لأهل الخصوص فينكرون على أهل الخصوص وهؤلاء لهم عالمهم. وقواعد ذلك العالم مقررة بفضل الله في  كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وتلك مرتبة مدار الكلام فيها على التحقق بها بشرائطها ولا تنال بالدعوى وما منا إلا وله مقام معلوم.
فإن قيل: ألا يستحق من ألزم نفسه بالإلزام السابق ثوابًا؟  فإن سلمتم بالاستحقاق يكون حكمًا شرعيًا وتثبت كراهة فعل ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو المطلوب.
قلنا: الثواب من جهة الحب لا من جهة عدم الفعل فانفكت الجهة ولم ينتج العدم حكمًا شرعيًا.
فإن قيل: إن قام المقتضي لفعله صلى الله عليه وسلم ولم يفعل كان هذا قرينة على أنه قد قصد إلى تركه فيكون منهيًا عنه.
قلنا: الحكم حينئذ بحسب ما تعطيه القرينة وهذا مما تختلف فيه الأنظار وقد تتفق، فإن تحقق في المسألة  إجماع عُمل به، وإلا فيعمل حينئذ على ما يقتضيه فن الخلاف.
وصلى الله وبارك على سيد الأولين والآخرين وقرة عيون المحبين وسلم تسليما كثيرًا

الأحد، 22 يناير 2012

تأملات في مقولة اشتهرت: "كتاب وسنة بفهم سلف الأمة"


تأملات في مقولة اشتهرت:
"كتاب وسنة بفهم سلف الأمة"

بقلم
محمد السيد محمد
الحنبلي الأزهري
أصلح الله حاله..وبلغه في الدارين آماله..









بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد الهادي الأمين وبعد فنريد في هذه المقالة أن نتناول بشيء من التحليل مقولة «لابد من العودة إلى الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح».
أقول:
لقد دأب كثير من الفضلاء على تكرار هذه المقولة والإلحاح عليها في خطابه، ويعلل هذا الفريق إصراره على هذه المقولة بأن الكل يدعي الاحتجاج بالكتاب والسنة لكن الأفهام تختلف فأي الأفهام هي التي يكون عليها التعويل؟ فالذي يرفع هذا الاختلاف هو تقييد الفهم بفهم سلف الأمة. ويذهب هذا الفريق إلى أننا إذا فعلنا هذا نكون قد حققنا ما طلبه منا  الشارع الحكيم من الرد إلى الله وإلى الرسول عند التنازع، ورفعنا الخلاف إذا كان الفهم مقيدًا بفهم السلف الصالح.
لكن الملاحظ أن هذا المنهج لم يرفع النزاع بين أصحابه أنفسهم بل لم يحصل التوافق حول فهم هذه المقولة عند التطبيق.
وهذه المقولة ترد عليها عدة أسئلة:
السؤال الأول: ما حدود المجال الذي تعمل فيه هذه القاعدة أم أنها شاملة لكل مجالات العلم الشرعي؟
السؤال الثاني: ما المقصود بالسلف الصالح؟
السؤال الثالث: ما المقصود بالكتاب والسنة؟
ولعل من المفيد أن نبدأ بالسؤال الثاني إذ هو بيت القصيد.
فنقول كلمة السلف الصالح كلمة فضفاضة ولعل قائلها يقصد بها القرون الخيرية الأولى الشاملة لجيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين.
لكن ما المقصود بفهمهم؟ هل هو إجماعهم أو قول آحادهم؟
فإن كان المقصود إجماعهم فلا شك في حجيته إن ثبت لكن ما الذي ميز إجماعهم عن إجماع غيرهم؟ فالإجماع حجة في كل عصر بتقدير ثبوته.
وإن كان المقصود قول آحادهم فلابد من التفريق بين الصحابة وغيرهم.
أما الصحابة إن كانت أقوالهم فيما لا مجال للرأي فيه ولم يعرف الصحابي بالأخذ عن أهل الكتاب فإن قوله يأخذ حكم المرفوع.
أما ما فيه مجال للرأي فقد وقع الخلاف الأصولي في حجية قول الصحابي وللعالم المحقق أن يتخير من الأقوال ما ترجح لديه بدليله.
أما غير الصحابة فلم يقم الدليل حتى الآن على حجية أقوالهم لا في الأصول ولا في الفروع.
أم أن المقصود قول المجتهد الذي انتشر ولم يعارض فيكون إجماعًا سكوتيًا؟ والإجماع السكوتي معلومٌ خلاف الأصوليين فيه وأيضًا ما الذي ميز إجماعهم السكوتي عن إجماع غيرهم؟
وثم سؤال آخر حول فهم السلف الصالح: إذا كانت النصوص منها ما هو ظني الثبوت ومنها ما هو قطعي الثبوت ومنها ما هو ظني الدلالة ومنها ما هو قطعي الدلالة، وبسبب وجود الظنية في بعضٍ تنشأ الاحتمالات التي تتوارد على الاستدلال بالكتاب والسنة. وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لنصوص الوحيين فما الذي يمنع من حصول الأمر ذاته مع أقوال السلف الصالح بعد التسليم الجدلي بحجية أقوالهم؟
فإذا انتقلنا إلى مجال هذه المقولة (وهو السؤال الأول) على فرض صحتها فهل مجالها يشمل العقائد والفروع معًا أو أنه قاصر على العقائد فقط؟
لا يجوز أن يقال بشمولها للفروع لأن الخلاف بين السلف في الفروع أشهر من أن يذكر كخلافهم في الجهر بالبسملة مثلًا.
وفي حالة خلافهم فهل يجوز المصير إلى قول جديد خارج عن أقوالهم؟
الأصوليون اختلفوا على أقوال ثلاثة:
يجوز ولا يجوز ويجوز بشرط عدم رفع القدر المشترك بين أقوالهم ولكل نظره ودليله.
ثم هل المقصود موافقتهم في القواعد والأصول الفقهية أو موافقتهم في الفروع التي بنيت على تلك الأصول؟ وما العمل لو أفضت الموافقة في الأصول إلى مخالفة في الفروع نظرًا لتغير الزمان.
ثم السنة الشريفة (هذا شروع في الكلام على السؤال الثالث) هل يقتصر فيها على الصحيح والحسن فقط؟ وما العمل في حالة حصول الخلاف في تصحيح حديث أو تضعيفه؟
وهل يطرح الضعيف بإطلاق؟
وهل يكون ساقط الاعتبار بالكلية؟
فالحديث الضعيف منه ما يكون ضعيفًا بسبب حفظ الراوي مثلًا، فهذا يكون احتمال مطابقته في نفس الأمر أضعف من عدم مطابقته.
لكن هل يخرجه هذا عن دائرة الاعتبار بالكلية؟
 الذي عليه جماهير الأمة أن الضعيف يفيد إدراكًا مرجوحًا بمدلوله، وعليه فلا مانع من الأخذ به في فضائل الأعمال؛ لأنه لاينشئ حكمًا جديداً ولكن قد يفيد ترغيبًا في الفعل أو ترهيبًا من الترك أما أصل الحكم فثابت بغيره. وكذلك يؤخذ به فيما لو وجد المجتهد قرينة ضعيفة تعاضده كشرع من قبلنا مثلًا عند من لا يراه حجة فإنه ينظر إلى مجموعهما هل يقوى على إفادة الحكم أو لا؟ فإن صلح قضى بمجموعهما ولا يكون هذا العمل تصحيحًا للحديث الضعيف ولا تقوية للقرينة الضعيفة بل يبقيان على ضعفهما وإن صلحا لإفادة الحكم بمجموعهما؛ لأن الأدلة لها من القوة عند اجتماعها ما ليس لها عند انفرادها كما يقول الشاعر:
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرًا

وإذا افترقن تكسرت آحادًا

وانفرد الإمام أحمد t بشيء زائد ألا وهو احتجاجه بنوع خاص من الضعيف وهو الضعيف الذي قد يحسنه غيره أو الضعيف الذي قارب على الحسن ولو وجد ما ينجبر به - مهما كان يسيرًا في قوته- لانجبر. وهذا النوع لأحمد فيه ذوق خاص حاصل من إحاطته بجميع السنة وكونه مجتهدًا، ولا يجوز لأحد أن يحتج بأحاديث غير التي احتج بها أحمد ثم يجعلها مذهبًا لأحمد بحجة أنها من جنس ما احتج به أحمد لأنا لا نسلم له صحة ذوقه هذا (كلامنا منصب على الأعصار المتأخرة بعد انقضاء قرون الحفظ الذهبية)، وعلى التسليم بأن ذوقه صحيح فلا نسلم بمطابقته لذوق أحمد إذ ربما لو عرض الحديث على الإمام لذكر فرقًا. لكن نقول: إن كان صاحب هذا الذوق قد وصل إلى رتبة الاجتهاد فله أن يعمل بذوقه هذا ويكون رأيًا له إلا أن هذا الاحتمال بالنظر إلى الواقع بعيد.
والسبب في ذهاب الإمام أحمد t إلى الاحتجاج بهذا النوع أنه قريب جدًّا من الحسن ومعلوم أن ما قارب الشيء أخذ حكمه، وهو خير من محض الرأي لأن الرأي تعتوره من الاحتمالات التي تضعفه أكثر من الاحتمالات التي تعتور هذا النوع المخصوص من الضعيف.
والذي قصدناه في الفقرة الأخيرة هو الأحاديث الضعيفة التي احتج بها الإمام أحمد على سبيل الاستقلال (في الأحكام) وهي كما ذكرنا خير من الرأي المحض. وهذا الأصل ما من مجتهد في الغالب إلا وقد شاركه في الأخذ به إلا أن الإمام أحمد له توسع فيه بحكم إحاطته التامة بالسنة الشريفة (وقد ذكر ابن القيم أمثلة لهذا في كتابه إعلام الموقعين)؛ فهو في الحقيقة لم يتفرد تفردًا مطلقًا في الأخذ به، ولكن بالنظر إلى توسعه فيه قياسًا إلى غيره صار كالمتفرد.
أما الأحاديث الضعيفة التي يؤخذ بها لا على سبيل الاستقلال كما في فضائل الأعمال أو في الأحكام التي وجد ما يدل عليها من قرائن ضعيفة كبعض الأدلة المختلف فيها عند من يضعفها (الضمير يعود على "بعض")، فالأخذ بها هو عمل الفقهاء ومن راجع كتب المذاهب تحقق من صدق هذا. والذي لا يفوتنا التشديد عليه أن الفقهاء احتجوا بهذه الأحاديث عالمين بضعفها ولكن ضعفها غير مانع من اعتبارها كما تقدم وإلا لساوى الضعيف الموضوع ولا قائل بهذا.

ثم يرد على الاحتجاج بالكتاب والسنة معًا أسئلة مشتركة هل دلالة العام فيهما على أفراده قطعية أو ظنية؟
وهل يجوز تخصيص الكتاب بالسنة أو لا؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي يجيب عنها علم أصول الفقه بمناهج مختلفة بين المتكلمين والفقهاء.
إذن لا مفر من التسليم بوقوع الخلاف وأن إضافة قيد فهم السلف الصالح ليس رافعًا للخلاف، كما أن فهم السلف ليس حجة أصلًا إلا في أحوال معينة كإجماعهم وكقول الصحابي الذي لم يعرف بالأخذ عن أهل الكتاب في ما لا مجال للرأي فيه،  ثم هم أنفسهم قد وقع الخلاف بينهم.
فلم يعد مفر من التعامل مع قضية الخلاف على أنها واقع لا يمكن رفعه وأنه ليس بالضرورة أن يكون الخلاف شيئًا ممقوتًا.لكن الخلاف غير جائز في مسائل الإجماع ويجوز فيما عداه.
ولابد من اعتبار ما نقل إلينا من أقوال فقهية بمثابة الثروة التي يجوز للجماعة المسلمة أن تتخير منها في كل زمان ومكان وحال ما يكون محققًا لمصالحها لأن هذه الاجتهادات ظنون وليس أحد الظنين بأولى من الآخر والظن المرجوح إذا عضدته مصلحة معتبرة فإنه لا يبقى مرجوحًا بل ينقلب فيصير راجحًا.
وربما يسأل بعضٌ فما يصنع العامي حيال هذا الخلاف؟
الجواب: العامي لا مذهب له مذهبه مذهب مفتيه فيسأل أي واحد من العلماء المعتبرين الذين يثق بديانتهم  ويعمل بفتواه.
كما أن له أن يتعلم مذهبًا فقهيًا فيعمل به برخصه وعزائمه.
وله أن يعمل بقول الجمهور.
وله أن يعمل بالأحوط، لكن ليس له أن يتخير الرخص من كل مذهب فيعمل بها اللهم إلا إذا ابتلي بشيء أوقعه في ضرر أو مشقة فله حينئذ أن يقلد من أجاز.
ما سبق من الكلام صحيحٌ في حالة الأمور القاصرة كالوضوء وصلاة المنفرد ونحو ذلك لكن ماذا يصنع العامي في الأمور المتعدية التي يكون فيها طرفًا في علاقة مع الآخرين كالبيوع والإجارات.
الجواب: يُعمل بقانون البلاد لأن حكم الحاكم في المسائل الخلافية يرفع الخلاف فإذا تخير الحاكم عن طريق اللجان التشريعية رأيًا من الآراء الفقهية وجب العمل به على عموم الناس[1] وتبقى باقي الآراء تدرس على الجانب النظري فقط في المعاهد الشرعية حتى يطلع طلاب العلم على خلاف الفقهاء وعلى مداركهم وحتى تتكون لديهم الملكة الفقهية، ولا يعمل بالقانون في الحالة التي ينقض فيها حكم الحاكم كما لو خالف إجماعًا قطعيًا مثلًا.
فإن لم يكن ثم قانون عمل بالعرف وبالفتوى التي عليها العمل في البلاد.
فإن لم يكن فيلجأ حينئذ إلى التحكيم الشرعي.
مما تقدم نستطيع أن نقول واثقين أننا كي نستطيع أن نطبق هذه القاعدة فلا بد من الإجابة عن الأسئلة السابقة التي قدمناها كنماذج فقط والإجابة كذلك عن غيرها من الأسئلة الكثيرة المشابهة التي تثيرها محاولة تطبيق هذه القاعدة. والإجابة عن تلك الأسئلة موجودة في العلوم التي نشأت لخدمة الكتاب والسنة كعلوم الحديث وأصول الفقه. والأخذ بهذه العلوم عليه عمل الأمة الإسلامية ولهم في هذا مذاهب شرعية ومدارس مرعية. إذن لم يضف رفع هذه القاعدة كشعار إلى الواقع شيئًا اللهم إلا نزاعات جديدة بين أصحابها وبين أتباع المذاهب الفقهية. والسلف الصالح لاشك أن لهم التقدير الكامل لدى سائر المسلمين، وأقوالهم حتى التي لا يحتج بها هي محل التقدير الكامل أيضًا من الفقهاء لكن على سبيل الاستئناس لا غير أو على سبيل الأخذ بها تقليدًا عند عدم القدرة على الاجتهاد لكن لا على التعيين وإنما يجوز تقليدهم كما يجوز تقليد غيرهم من المجتهدين في العصور التالية (هذا بعد ثبوت نسبة الأقوال إليهم كما أن اجتهاداتهم قد لاحظها أرباب المذاهب المتبوعة[2] وأخذوا منها ما ترجح لديهم على وفق منهاجهم الاستدلالية) .
وبقيت كلمة أخيرة: وهي أن قائل هذه العبارة إن أراد بها التنبيه على مكانة السلف الصالح وأنهم علمٌ على الاجتهاد المنضبط؛ تسمية للشيء بأهم أفراده، ولم يرد استبعاد غيرهم من المجتهدين الذين جاءوا من بعدهم واتبعوا سبيلهم بإحسان؛ فلا محذور في هذا المعنى لكن لابد من إيضاحه دفعا للإيهام.
هذا ما أردنا قوله على سبيل الاختصار كتبناه نصحًا لأرباب تلك المقولة وهم أهل خير وفضل ولهم في الدعوة إلى الله جهد مشكور وسعي غير منكور.

والله من وراء القصد
وهو الهادي إلى سواء السبيل



([1]) معنى وجوب العمل به: أي وجوب العمل بمقتضى القانون من التزام فيما ألزم به ومن تخير فيما خير فيه.
([2] ) وكل مذهب من هذه المذاهب لا يمثل عقل إمامه فحسب بل هو عبارة عن مجموع عقول ممتازة من مجتهدين ومحدثين وفروعيين وأصوليين ولغويين وغيرهم تتابعوا على خدمة وصياغة منحى اجتهادي معين في فهم الكتاب والسنة.

الاثنين، 9 يناير 2012

عن العقل الجمعي مجددًا


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العلي الماجد, الفرد الصمد العلي الواحد, والصلاة والسلام على من كانت بعثته رحمة للعالمين وعلى آل بيته الطاهرين وبعد
فظاهر أن موضوع العقل الجمعي قد شغل الإخوة الفضلاء الذين يتابعون المدونة. ونيتي وإن لم تكن متوجهة نحو مزيد كلام عنه إلا أنه لا بأس من بعض إيضاح. فنقول وبالله التوفيق: قد قلنا ما نعنيه بالعقل الجمعي حيث عرفناه قائلين: "   التفكير المتشابه تجاه بعض الأمور بين أفراد مجموعة ما بالشكل الذي يؤدي إلى التناغم في تصرفات تلك الجماعة    " فالذي يؤثر في العقل الجمعي بحسب هذا التعريف عوامل عدة منها ما يكون مؤثرًا في الحيوان بصفة عامة, ومنها ما يكون مؤثرًا في خصوص النوع الإنساني, ومنها ما يكون مؤثرا في جماعة بعينها دون باقي الجماعات, والذي يعنينا هو الزمرة الثالثة من المؤثرات. هذه المؤثرات منها ما هو تاريخي ومنها ما هو جغرافي ومنها ما هو راجع لشخص بعينه أو أشخاص باعتبارهم جزءًا من تلك الجماعة, ولكي نكون نكون أكثر تحديدا فالذي يهمنا من هذه الزمرة هو المؤثرات الشخصية ونعني بها الفرد أو الأفراد الذين ينتمون إلى جيل من البشر يحيا في إطار جماعة بعينها وإلى جيل وربما جيلين  يتقدمانه. فهذه المؤثرات الأخيرة بالغة التأثير لأنها حية سريعة متفاعلة متجددة بخلاف النوع التاريخي والجغرافي فإنه بطيء الحصول على نحو لا نكاد نشعر به لأنه يحصل في فترة طويلة حنى يمكن أن تتشكل منه ذاكرة الجماعة إلا أنه دائم ونعني بدوامه أنه يستمر لفترة طويلة, وزواله يحتاج إلى وقت طويل بخلاف التأثير السريع المتجدد (فهذا يتمكن الناس من ملاحظته) وبخاصة في السنوات الأخيرة التي تتلاحق فيها الأحداث وبالتالي ما تستتبعه من تفاعلات مجتمعية. أبرز ما يلفت انتباهنا في هذه المؤثرات هم حكماء الأمة ومفكروها والذين تنتقل أفكارهم من وراء جدران صومعاتهم وتسير الجماهير مشدودة إليها  كما حدث في المجتمعات الاشتراكية والرأسمالية فهي في الأساس فلسفات كما هو معلوم ثم سرت في عقول الجماهير. لدى المسلمين كان لدينا من هذه الطبقة الممتازة (والتشارك في الامتياز عن باقي الجماهير لا غير وليس التشارك في ماهية الامتياز) المجتهدون والعارفون والفرق بينهما أن علم المجتهد كسبي وعلم العارف وهبي ولا مانع أن يجتمع الاجتهاد والعرفان في شخص واحد كما أنه قد يكون مجتهدا غير عارف أو عارفا غير مجتهد بل قد يحصل المرء شروط الاجتهاد مع كونه فاسقا إلا أن اجتهاده في هذه الحالة يكون مقبولا لنفسه غير مقبول لغيره لعدم أمن الكذب. وفرق آخر أن المجتهد يحتاج أن يتصل بشكل ما بالجماهير لتصل أفكاره إليهم. وقد يتصل من خلال كتاب أو من خلال الوعاظ والدعاة الذين يوصلون أفكاره إلى الناس من خلال الخطب والدروس. وهذا الطبقة من الدعاة والوعاظ هي طبقة في غاية الخطورة لأنها تمثل المرحلة التي يحصل فيها التفاعل وإن شئت قلت جدلية الفكر والواقع فيؤثرون في الناس بأفكار المجتهدين ويتلقون تأثيرا آخر من الناس من خلال إمكانية التطبيق وعدمه وهل كانت الفكرة الاجتهادية قابلة للتطبيق أو لا؟ ومن خلال هذه الجدلية يتشكل جزء كبير من الوعي المشترك وبقدر مخالطة الدعاة للمجتهدين والناس بقدر ما يترقى المجتهد والعكس صحيح فالمجتهد فاعل في المجتمع من خلال أدوات الاتصال وبقدر قبول الناس لاجتهاداته وهو منفعل في  تلقيه ردود أفعال الجماهير ومن ثم محاولاته تعديل اجتهاداته لتكون أكثر واقعية ومرونة وبما لا يخرم أسوار الشريعة. أما العارف بالله فلا يتوقف تأثيره على الاتصال المعروف وإنما قد يؤثر بحاله أو بتوجيه الناس عن طريق الاتصال القلبي أو يتصرف بحسب حدود ولايته التي أعطاها الله عز وجل له والكلام فيه نؤكد مجددًا أنه خارج عن إطار كتابتنا هنا فلنؤجله حتى يأذن الله بأن نتحاور حوله سويًا.
وحتى لا نطيل وقفتنا فلنبدأ إن أذن الأخوة الأعزاء في الحديث بداية من المقالات المقبلة عن مجال من مجالات الاجتهاد المعاصر ألا وهو السياسة الشرعية. والله ولي التوفيق

الثلاثاء، 27 ديسمبر 2011

حديث عن العقل الجمعي


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان الأنوران الأزهران على سيد الأكوان نبينا الهادي بإذنه تعالى إلى طرائق الرحمن وبعد
فكلامي اليوم يأتي تواصلا مع بعض التعليقات التي دارت حول سؤال: هل العارف بالله هو الذي يؤثر في العقل الجمعي بشكل ملموس أو المجتهد؟ ولعل من المفيد قبل الشروع في الإجابة أن نجيب على سؤال آخر مبدئي وهو: ما العقل الجمعي؟ بيد أن الإجابة عن هذا السؤال تقودنا إلى سؤال آخر: ما المقصود بالجماعة؟.
من الواضح أننا نطلق لفظ الجماعة على العديد من التكوينات فهناك جماعة الأسرة وجماعة الفصل والمدرسة والوطن والقبيلة بل حتى اللصوص قد يكونون جماعة. يعرف العلامة الشيخ محمد عبد الله دراز الجماعة بقوله: هي المجموعة من الأفراد التي جمعها هدف مشترك وجامع واحد(الحياة الوجدانية والعقيدة الدينية ص127). وبدهي أن الجماعة كي تكون جماعة لابد أن يكون هناك مشترك ما بين أفرادها وكلما زادت المشتركات كلما قويت هذه الجماعة. وتتفاوت قوة الجماعات بحسب طبيعة هذه المشتركات ففرق كبير بين الاشتراك في المثل العليا والمبادئ السامية وبين الاشتراك في رغبات مالية أو حسية. وقد افترق علماء النفس أو الاجتماع في نظرتهم إلى الجماعة كما ذكر العلامة دراز (وأنا سأعتمد عليه في حكاية هذه المذاهب ونقدها ولكن بتصرف من عندي) إلى مذاهب ثلاثة:
          المذهب الأول: ينظر إلى الجماعة على أنها جسم عضوي واحد
          المذهب الثاني: ينظر إليها على أنها وحدة نفسية أوعقلية.
          المذهب الثالث: ينظر إليها على أنها أكبر من المجموع الذي تتألف منه أجزاؤها.
أما أصحاب النظرية الأولى فقد لاحظوا التشابه بين الجماعة والفرد فكما أن الفرد مكون من أجزاء وكل جزء يؤدي وظيفة تخدم الجسم فكذلك الجماعة مؤلفة من أفراد وكل فرد يؤدي وظيفة محددة تخدم الجماعة. ولأجل هذا التشابه ذهب هذا الفريق ومنهم أرسطو وتوماس الأكويني وهوبز وسبنسر إلى القول بأن الجماعة نوع من الأجسام العضوية يخضع لأحكامها بل أغرب نيكولص كويز منهم وبين على التفصيل أجزاء هذه الجماعة فالقوانين هي الأعصاب والتشريع الأعلى هو العقل والأرض هي الهيكل إلخ. والنقد الذي يتوجه إلى هذه النظرية هو أن وجود التشابه لا ينفي وجود الفوارق من حيث النشأة والنمو والموت والتصرف وليست للجماعة حياة واحدة كالفرد ولكن لها حيوات متعددة بعدد أفرادها وثمة فرق هام هو أن الجماعة تعتمد في نجاحها على التشابه النفسي بين أفرادها بينما الفرد يتكون من أعضاء متخالفة الوظائف والتركيب. فمجرد التشابه لا يعطينا الحق في نقل جميع أحكام المتشابهين إلى الآخر واعتباره هو. ولذا وجدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم شبه جماعة المؤمنين بالجسد الواحد ولم يقل إنها هو ومعلوم أن التشابه يكفي فيه الاشتراك في وجه الشبه لا غير.
وأما أصحاب النظرية الثانية فقد ذهبوا إلى أن الجماعة تكون وحدة عقلية فنراهم يتحدثون عن عقل الجماعة وإرادة الشعوب لا بطريق الكناية والمجاز ولكن بطريق الحقيقة ومن أنصار هذا الرأي وليام مكدوجل وهربرت سبنسر ودور كايم. ويعتمد هذا الرأي على ملاحظة تصرفات الجماعات المختلفة كأسراب الطيور وخلية النحل والجماعات الإنسانية فكثير من هذه الجماعات تتصرف كأنها مخلوق واحد ولا يمكن أن يكون هذا التصرف إلا أن يكون ناشئا عن عقل وهذا العقل بالتأكيد ليس هو عقل الأفراد وإنما هو عقل الجماعة الذي نشأ عن اتصال عقول أفراد الجماعة. فعقل الجماعة على هذا الرأي حقيقة واقعة وموجودة فعلا وناشئة عن الاتصال الذهني بين أفراد كل جماعة من الجماعات . ويذهب بعض العلماء إلى أبعد من هذا فيرى أن عقل الفرد نشأت وحدته عن إدراكات الخلايا وشعورها (هذا الفريق يرى أن لكل خلية من خلايا المخ شعورها وإدراكها الخاص) وإذا كان هذا هو الشأن بالنسبة للعقل الفردي فلم لا يكون كذلك الأمر بالنسبة للجماعة؟ فيكون للجماعة عقل هو قوة خارجية تنشأ عن التقاء عقول الأفراد. وقد لاحظ مكدوجل أن تصرف الفرد وقت شعوره أنه عضو من جماعة يخالف تصرفه وقت انعدام هذا الشعور. وهذه الملاحظات -وغيرها كثير- لا تبرر القول بأن للجماعة عقلا مغايرا لعقول الأفراد الذين يكونونها. يقول الشيخ دراز: لأن العقل الذي نعرفه لابد أن يكون وحدة ذات حياة واحدة، ولا تتحقق تلك الوحدة إلا إذا كانت أعضاء جسمه متصلة اتصالا عضويا (قلت: العقل لدى المسلمين ليس محله المخ أو الدماغ وإنما تظهر أنواره وآثاره في الدماغ)، وكانت أجزاء مخه مرتبطة ارتباطا عصبيا...فهل ما يسمى عقل الجماعة كذلك؟... وأين هو؟ وما هو عدد العقول؟ وهل هناك عقل أعلى للعالم؟. لكن يمكن تعليل السلوك الموحد للجماهير على أنه مشاركة وجدانية فطرية بل قد يشارك الفرد الحيوانات مشاركة فطرية كما لو استثيرت إحدى غرائزه فسلك سلوك الحيوانات. فالحركات الجمعية هي مشاركة وجدانية وليست أثرا لعقل عام أو شعور عام ولكنها أثر لتلك الغرائز الفطرية في الإنسان التي تثار عند ملاحظتها انفعال أحد الأفراد فيها. فهو في الحقيقة نوع من العدوى النفسية التي تنزل بالمرء عن مستواه العادي من التصرف الخلقي وتفقده كثيرا من شخصيته وهو نوع من التحكم الانفعالي الذي يجعل المرء غير متمكن من التفكير المتزن ولذلك تجد الجماهير في تجمهرها مغلوبة بالانفعالات.
بقي أصحاب النظرية الثالثة الذين يرون أن الجماعة مكونة من العقل والجسم ومن شيء آخر هو علاقة الأفراد بعضها ببعض. وهذا الفريق يرى للعلاقات وجودا زائدا على وجود الأفراد. وهذا الرأي أيضا مردود عليه بأن الأفراد يولدون موصوفين بتلك العلاقات وليست طارئة عليهم فهي من المعاني التي تكون شخصياتهم ولا يمكن الحديث عن الجماعة باعتبارها شيئا معاندا للأفراد لأن هذا يستلزم أن نجرد الأفراد من علاقاتهم وهذا فرد لا وجود له في الخارج لأن الشخص الواقعي هو الشخص ذو العلاقة المرتبط بغيره والأشخاص في علاقاتهم بعضهم ببعض هم الجماعة والجماعة هم هؤلاء الأشخاص وليست شيئا وراء ذلك.أ.هـ. ما أردته من كلام العلامة دراز بتصرف.
إذن ما الذي نعنيه نحن في كلامنا بالعقل الجمعي؟. الذي نقصد بالعقل الجمعي هو التفكير المتشابه تجاه بعض الأمور بين أفراد مجموعة ما بالشكل الذي يؤدي إلى التناغم في تصرفات تلك الجماعة. ومحال عادة أن تفكر تلك الجماعة بطريقة متشابهة في كل الأمور وبدهي بحسب العادة أيضا أن يختلف هذا القدر المشترك من جماعة إلى أخرى. لكن يمكن القول: إن ثمة مشتركا حيوانيا عاما يجتمع فيه الإنسان مع الحيوانات كالسلوك المضطرب في حالات الخوف والذعر كما يمكن القول: إن هناك مشتركات إنسانية عامة تلاحظ في الأطفال كنزوعهم إلى افتراض أن هناك خالقا للكون. ثم هناك المشتركات الأخص بين الجماعات المختلفة وهنا كان السؤال ما الذي يؤثر في هذا العقل الجمعي ويشكله؟ لدى الغربيين يمكن أن نلاحظ بدون عناء أن الفلاسفة عبر القرون الثلاثة الأخيرة قد سرت أفكارهم في الجماهير وشكلت بشكل كبير عقلهم الجمعي على الرغم من أن هؤلاء الفلاسفة لم يتبنوا فلسفة واحدة بل زخر النصف الأول من القرن العشرين على سبيل المثال بالعديد من الفلسفات المتباينة المتصارعة. لكن هناك أيضا قواسم مشتركة وهذه القواسم ومعها نفس الصراع الفلسفي أثر في العقل الجمعي للغربيين. وهذا لا ينفي انقسامهم أيضا إلى جماعات لدى كل جماعة منها وعيها الخاص. ونحن نؤكد جازمين أن البشر هناك في تفاعلاتهم السريعة إلى حد ما الفلسفية ومن ثم المجتمعية قد باتوا بحاجة ماسة إلى أن يطلعوا على الحل الإسلامي من خلال الكتاب والسنة باجتهاد يلبي حاجات العصر ويحقق معني تجديد الدين كما في الحديث المشهور.
في عالمنا الإسلامي لم يكن الفقيه معزولا (نعني بالفقيه هنا المجتهد كما هو في اصطلاح العلماء) وإنما كان مفتيا وقاضيا وكثيرا ما كان حاكما في ولاية أو إمارة أو كان خليفة لذا كان تأثير هؤلاء الفقهاء في عقول الجماهير قويا وواضحا. خذ هذا المثال عندنا في مصر: هناك عبارة كانت متداولة حتى وقت قريب في مدن وقرى مصر وهي: المغرب غريب. إذا فتشت عن سبب انتشار هذه المقولة لوجدت أنها من أثر اختلاط العوام بالفقهاء فمعلوم أن مذهب الشافعي رضي الله عنه في الجديد أن وقت المغرب ليس ممتدا إلى العشاء كما هو مذهبه في القديم ومذهب جماهير العلماء وإنما وقت المغرب عنده مؤقت بقدر ما يتسع لصلاة المغرب وما يتصل به من السنن. نعم ليست الفتوى في هذه المسألة على الجديد وإنما الفتوى فيها على القديم لكن بقي اجتهاد الشافعي الجديد في هذه المسألة محفورا في الذاكرة المصرية فراعى المصريون خلافه ونراهم يتعجلون صلاة المغرب ولو ذهبنا نتتبع الأمثلة لجئنا بالشيء الكثير. فالمجتهد يؤثر لكن بشرط الاتصال لذا ما إن انحسر دور الفقهاء في العصر الحديث وضعف إلى حد ما اتصالهم بالجماهير لم يعد لهم ذاك التأثير السابق وحل محلهم آخرون. لكن العارف بالله أمره مختلف, يوضحه حديث من عادى لي وليا فظاهر الحديث يفيد أن الولي يسمع بالله وبه يبصر وبه يبطش أي أن له قدرة تصريفية بإذن الله تعالى تغاير المعهود وتخالف المألوف لكنه في النهاية لا يريد إلا ما أراده الله وهو لو أقسم على  الله لأبره وهمته سابقة لكنها لا تخرق أسوار الأقدار والنبي الأكرم صلوات ربي وتسليماته عليه قد بين أن الحقائق قد تكون على خلاف ما نتوقعه كما في قوله: وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم. وكثير من الأولياء كما هو مسطور في كتب العرفان قد تجده مريضا مكدودا  لأنه تحمل الأذى عن أهل محلته وتأثير العارف متجاوز لكنك قد لا تعرف أن هذا الشخص المعين هو مصدر هذا التأثير فمن العارفين من فرضه الخمول ومنهم من فرضه الظهور لكن الخمول لا يعني أكثر من خمول ذكره لا خمول أثره. (الذي نحب أن نشدد عليه أنا لا نعني بالتأثير التأثير الحقيقي لأنه لا فاعل في الحقيقة إلا الله وإنما نعني التأثير المجازي والذي صحح التجوز هو كون العارف مظهرا لتجليات الحق).
وحديثنا هنا منصب على ما يمكن إدراكه بطريق العقل كشروط الاجتهاد مثلا أما العارف فشأنه متجاوز طور العقل فإدراكه كشفي ليس عن نظر واستدلال لكنه لا يعارض الشريعة, وقبول كشفه مشروط بعدم المعارضة.
أما حديث الأستاذة مايسة عن اليقين فاليقين حصوله عن طريق العقل صعب في المطالب العالية وإنما هو أخذ بالأليق والأخلق كما يقول الإمام الرازي. لكن هل معنى هذا أنه لا سبيل إلى حصول اليقين؟ الجواب: لا بل يمكن حصول اليقين عن طريق العقل أحيانا قليلة جدا وعن طريق شيء وراء طور العقل في أحيان كثيرة لمن سلك الطريق القويم. والطرائق العقلية قد تكون مفيدة جدا في هدم العقائد الباطلة لكنها في مقام إثبات العقائد الحقة تعد مقدمات مهمة تفيد اليقين أحيانا وتفيد الظن الغالب في أحيان أخرى. وهذا السلوك العقلي كثيرا ما يحصل معه يقين ليس ناشئا عن تلك المقدمات العقلية التي يمكن التشكيك في يقينيتها لا في راجحيتها وإنما هذا اليقين نور يقذفه الله في القلوب. وهذا اليقين يحصل لكثير من العوام الذين لم يسلكوا المسالك العقلية الصعبة وإنما راضوا أنفسهم برياضات الشرع من تأمل في بديع صنع الله ومن صلاة وصيام وزكاة وحج وأمر بمعروف ونهي عن منكر وحب الناس وبعد عن الغيبة والنميمة إلخ. فإذا ما راض المرء نفسه هكذا وواظب وداوم قذف الله في قلبه أنوار الحق. ولو جرب إنسان أن يداوم على الشريعة وأن يواظب على قراءة القرآن الكريم باعتباره خطابا يتوجه إليه ثم وقف بباب الحق سبحانه منتظرا فيض الجواد الكريم فإنه لا بد بحسب العادة الربانية أن تنسكب على قلبه المعارف الإلهية فإن الله عند حسن ظن عبده به ولكل ورده المعلوم ونصيبه المقسوم (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا)
وإلى لقاء آخر بإذن الله والله يتولانا ويتولاكم






الثلاثاء، 20 ديسمبر 2011

كلمة افتتاحية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

مرحبا بكم أعزائي الذين قد يكترثون لقراءة ما تحويه مدونتي. ربما ليس من المهم أن أجيب عن سبب إنشاء مدونة خاصة بي لكن المهم هو لماذا جعلت عنوانها الالكتروني "الاجتهاد"؟. الاجتهاد معناه بذل الوسع وعند فقهاء الشريعة له شروط خاصة من تحققت فيه فهو المجتهد وهم يقسمون المجتهدين إلى طبقات وكثير منهم يقسم الاجتهاد إلى كلي وجزئي ولهم خلاف مشهور في الشروط الواجب توافرها في المجتهد ما بين مضيق وموسع. لكني لم أرد هذا المعنى الخاص وإنما أردت الاجتهاد بمعناه الأوسع الشامل للفقهي وهذا المعنى الواسع  يسمح أيضا لسائر الناس بالمشاركة في صنع النهضة الحضارية اللائقة بنا في عصر تعقدت منظوماته المختلفة في السياسة والاقتصاد وغيرها من المجالات وبتنا محتاجين أن نجتهد اجتهادا مبتدأ لعصرنا. نعم عند المجتهد تجتمع جميع الطرق وتصب هذه الجهود في شخص مجموعة من المجتهدين الذين يمكن أن نقول بشيء من التحفظ أن المقابل لهم لدى الغرب الفلاسفة الذين سرت أفكارهم بين عقول الجماهير فكان ما كان مما نشاهده لديهم من رقي في بعض المجالات
والسر في تحفظي السابق: هل المجتهد هو الذي يؤثر في العقل الجمعي  بشكل ملموس أم أنه العارف بالله، لكن الحديث عن العارفين حديث وعر، بعضه حديث مادي وجله عرفاني. أما المجتهد فشروطه مادية دائرة في فلك المعقول. والذي نجد أنفسنا مضطرين إلى التصديق به هو ضرورة أن يجتهد الكل في بذل الوسع متحررين من القيود المفروضة على العقل التي ليست إلا تكرارا لمقولات الآباء وهي مقولات قد تكون صحيحة مطلقا وقد تكون صحتها مقيدة بزمانهم وقد تكون غير صحيحة حتى في زمانهم. فالذي نرمي إليه هو التفكير الحر الذي لا ينصاع إلا للحجة والبرهان يحترم الاجتهاد السابق ولا يمانع من الأخذ ببعض مقولاته إن كانت لا تزال صالحة لكنه يقدم في نفس الوقت اجتهاده الآني ويقدم مشروعه الحضاري الذي تأخر. ليس معنى كلامنا أنه لا توجد جهود فردية في هذا الشأن بل هذه المدونة ما هي إلا محاولة تضم إلى سائر المحاولات التي هي في النهاية ممهدات لذلك المشروع.  لم نجد أرحب من الشبكة الالكترونية نكتب فيها من غير رقابة الجهلاء الذين اعتلوا معظم مؤسساتنا في عالمنا الإسلامي ثم الشبكة لا نحتاج فيها إلى وساطة أحد لنشر مقال وأنا رجل لم يعتد دق الأبواب وإنما أنا واحد من خلق الله الكثيرين الذين أحسوا أن لديهم نفس الهموم ونفس المشكلات ونفس التطلعات ويرغبون في مستقبل أفضل لهذه البلاد فلم يكن هناك فكاك من أن يتواصل هؤلاء وأن يتبادلوا الأفكار ويصحح بعضهم لبعض دون قيود ودون استطالة وتعالم وهي أمراض سيطرت على كثرة من الفاسدين عديمي الموهبة الذين امتلأت بهم مؤسسات العالم الإسلامي والذين لا يزالون يخاطبون الجماهير خطابا فوقيا مستعليا يحتقر ذكاءهم واطلاعهم ولسان حاله لقد قرأت لكم وفهمت لكم وما عليكم إلا أن تسمعوا وتطيعوا (ليست هذه الأمراض قاصرة على مجال دون آخر ولكنها سارية  في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية...إلخ). ولعل بعضًا يظن أن ما ننكره في الفقرة الأخيرة يتناقض مع ما يفهم من كلامنا في أول المقال من أن النخبة هي التي تحرك الناس وتؤثر في العقل الجمعي بشكل ملموس. وليس بين الكلامين تناقض لأنا أولا لا نسلم أن رؤوس المؤسسات من النخبة أصلا وإنما جاءت بهم الحكومات القمعية المتصالحة مع أعداء الأمة لضمان بقائهم في الكراسي والأمر الثاني أن النخبة لا يكونون كذلك إلا بفضل أفكارهم التي تجعل الناس يقدمونهم وينصاعون لهم طواعية فلا تكتسب الفكرة قبولا إلا بسبب جودتها وقدرتها على الإجابة عن الأسئلة.
ترى هل أحظى بتعليق قبل البدء؟؟؟؟