الأحد، 22 يناير 2012

تأملات في مقولة اشتهرت: "كتاب وسنة بفهم سلف الأمة"


تأملات في مقولة اشتهرت:
"كتاب وسنة بفهم سلف الأمة"

بقلم
محمد السيد محمد
الحنبلي الأزهري
أصلح الله حاله..وبلغه في الدارين آماله..









بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد الهادي الأمين وبعد فنريد في هذه المقالة أن نتناول بشيء من التحليل مقولة «لابد من العودة إلى الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح».
أقول:
لقد دأب كثير من الفضلاء على تكرار هذه المقولة والإلحاح عليها في خطابه، ويعلل هذا الفريق إصراره على هذه المقولة بأن الكل يدعي الاحتجاج بالكتاب والسنة لكن الأفهام تختلف فأي الأفهام هي التي يكون عليها التعويل؟ فالذي يرفع هذا الاختلاف هو تقييد الفهم بفهم سلف الأمة. ويذهب هذا الفريق إلى أننا إذا فعلنا هذا نكون قد حققنا ما طلبه منا  الشارع الحكيم من الرد إلى الله وإلى الرسول عند التنازع، ورفعنا الخلاف إذا كان الفهم مقيدًا بفهم السلف الصالح.
لكن الملاحظ أن هذا المنهج لم يرفع النزاع بين أصحابه أنفسهم بل لم يحصل التوافق حول فهم هذه المقولة عند التطبيق.
وهذه المقولة ترد عليها عدة أسئلة:
السؤال الأول: ما حدود المجال الذي تعمل فيه هذه القاعدة أم أنها شاملة لكل مجالات العلم الشرعي؟
السؤال الثاني: ما المقصود بالسلف الصالح؟
السؤال الثالث: ما المقصود بالكتاب والسنة؟
ولعل من المفيد أن نبدأ بالسؤال الثاني إذ هو بيت القصيد.
فنقول كلمة السلف الصالح كلمة فضفاضة ولعل قائلها يقصد بها القرون الخيرية الأولى الشاملة لجيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين.
لكن ما المقصود بفهمهم؟ هل هو إجماعهم أو قول آحادهم؟
فإن كان المقصود إجماعهم فلا شك في حجيته إن ثبت لكن ما الذي ميز إجماعهم عن إجماع غيرهم؟ فالإجماع حجة في كل عصر بتقدير ثبوته.
وإن كان المقصود قول آحادهم فلابد من التفريق بين الصحابة وغيرهم.
أما الصحابة إن كانت أقوالهم فيما لا مجال للرأي فيه ولم يعرف الصحابي بالأخذ عن أهل الكتاب فإن قوله يأخذ حكم المرفوع.
أما ما فيه مجال للرأي فقد وقع الخلاف الأصولي في حجية قول الصحابي وللعالم المحقق أن يتخير من الأقوال ما ترجح لديه بدليله.
أما غير الصحابة فلم يقم الدليل حتى الآن على حجية أقوالهم لا في الأصول ولا في الفروع.
أم أن المقصود قول المجتهد الذي انتشر ولم يعارض فيكون إجماعًا سكوتيًا؟ والإجماع السكوتي معلومٌ خلاف الأصوليين فيه وأيضًا ما الذي ميز إجماعهم السكوتي عن إجماع غيرهم؟
وثم سؤال آخر حول فهم السلف الصالح: إذا كانت النصوص منها ما هو ظني الثبوت ومنها ما هو قطعي الثبوت ومنها ما هو ظني الدلالة ومنها ما هو قطعي الدلالة، وبسبب وجود الظنية في بعضٍ تنشأ الاحتمالات التي تتوارد على الاستدلال بالكتاب والسنة. وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لنصوص الوحيين فما الذي يمنع من حصول الأمر ذاته مع أقوال السلف الصالح بعد التسليم الجدلي بحجية أقوالهم؟
فإذا انتقلنا إلى مجال هذه المقولة (وهو السؤال الأول) على فرض صحتها فهل مجالها يشمل العقائد والفروع معًا أو أنه قاصر على العقائد فقط؟
لا يجوز أن يقال بشمولها للفروع لأن الخلاف بين السلف في الفروع أشهر من أن يذكر كخلافهم في الجهر بالبسملة مثلًا.
وفي حالة خلافهم فهل يجوز المصير إلى قول جديد خارج عن أقوالهم؟
الأصوليون اختلفوا على أقوال ثلاثة:
يجوز ولا يجوز ويجوز بشرط عدم رفع القدر المشترك بين أقوالهم ولكل نظره ودليله.
ثم هل المقصود موافقتهم في القواعد والأصول الفقهية أو موافقتهم في الفروع التي بنيت على تلك الأصول؟ وما العمل لو أفضت الموافقة في الأصول إلى مخالفة في الفروع نظرًا لتغير الزمان.
ثم السنة الشريفة (هذا شروع في الكلام على السؤال الثالث) هل يقتصر فيها على الصحيح والحسن فقط؟ وما العمل في حالة حصول الخلاف في تصحيح حديث أو تضعيفه؟
وهل يطرح الضعيف بإطلاق؟
وهل يكون ساقط الاعتبار بالكلية؟
فالحديث الضعيف منه ما يكون ضعيفًا بسبب حفظ الراوي مثلًا، فهذا يكون احتمال مطابقته في نفس الأمر أضعف من عدم مطابقته.
لكن هل يخرجه هذا عن دائرة الاعتبار بالكلية؟
 الذي عليه جماهير الأمة أن الضعيف يفيد إدراكًا مرجوحًا بمدلوله، وعليه فلا مانع من الأخذ به في فضائل الأعمال؛ لأنه لاينشئ حكمًا جديداً ولكن قد يفيد ترغيبًا في الفعل أو ترهيبًا من الترك أما أصل الحكم فثابت بغيره. وكذلك يؤخذ به فيما لو وجد المجتهد قرينة ضعيفة تعاضده كشرع من قبلنا مثلًا عند من لا يراه حجة فإنه ينظر إلى مجموعهما هل يقوى على إفادة الحكم أو لا؟ فإن صلح قضى بمجموعهما ولا يكون هذا العمل تصحيحًا للحديث الضعيف ولا تقوية للقرينة الضعيفة بل يبقيان على ضعفهما وإن صلحا لإفادة الحكم بمجموعهما؛ لأن الأدلة لها من القوة عند اجتماعها ما ليس لها عند انفرادها كما يقول الشاعر:
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرًا

وإذا افترقن تكسرت آحادًا

وانفرد الإمام أحمد t بشيء زائد ألا وهو احتجاجه بنوع خاص من الضعيف وهو الضعيف الذي قد يحسنه غيره أو الضعيف الذي قارب على الحسن ولو وجد ما ينجبر به - مهما كان يسيرًا في قوته- لانجبر. وهذا النوع لأحمد فيه ذوق خاص حاصل من إحاطته بجميع السنة وكونه مجتهدًا، ولا يجوز لأحد أن يحتج بأحاديث غير التي احتج بها أحمد ثم يجعلها مذهبًا لأحمد بحجة أنها من جنس ما احتج به أحمد لأنا لا نسلم له صحة ذوقه هذا (كلامنا منصب على الأعصار المتأخرة بعد انقضاء قرون الحفظ الذهبية)، وعلى التسليم بأن ذوقه صحيح فلا نسلم بمطابقته لذوق أحمد إذ ربما لو عرض الحديث على الإمام لذكر فرقًا. لكن نقول: إن كان صاحب هذا الذوق قد وصل إلى رتبة الاجتهاد فله أن يعمل بذوقه هذا ويكون رأيًا له إلا أن هذا الاحتمال بالنظر إلى الواقع بعيد.
والسبب في ذهاب الإمام أحمد t إلى الاحتجاج بهذا النوع أنه قريب جدًّا من الحسن ومعلوم أن ما قارب الشيء أخذ حكمه، وهو خير من محض الرأي لأن الرأي تعتوره من الاحتمالات التي تضعفه أكثر من الاحتمالات التي تعتور هذا النوع المخصوص من الضعيف.
والذي قصدناه في الفقرة الأخيرة هو الأحاديث الضعيفة التي احتج بها الإمام أحمد على سبيل الاستقلال (في الأحكام) وهي كما ذكرنا خير من الرأي المحض. وهذا الأصل ما من مجتهد في الغالب إلا وقد شاركه في الأخذ به إلا أن الإمام أحمد له توسع فيه بحكم إحاطته التامة بالسنة الشريفة (وقد ذكر ابن القيم أمثلة لهذا في كتابه إعلام الموقعين)؛ فهو في الحقيقة لم يتفرد تفردًا مطلقًا في الأخذ به، ولكن بالنظر إلى توسعه فيه قياسًا إلى غيره صار كالمتفرد.
أما الأحاديث الضعيفة التي يؤخذ بها لا على سبيل الاستقلال كما في فضائل الأعمال أو في الأحكام التي وجد ما يدل عليها من قرائن ضعيفة كبعض الأدلة المختلف فيها عند من يضعفها (الضمير يعود على "بعض")، فالأخذ بها هو عمل الفقهاء ومن راجع كتب المذاهب تحقق من صدق هذا. والذي لا يفوتنا التشديد عليه أن الفقهاء احتجوا بهذه الأحاديث عالمين بضعفها ولكن ضعفها غير مانع من اعتبارها كما تقدم وإلا لساوى الضعيف الموضوع ولا قائل بهذا.

ثم يرد على الاحتجاج بالكتاب والسنة معًا أسئلة مشتركة هل دلالة العام فيهما على أفراده قطعية أو ظنية؟
وهل يجوز تخصيص الكتاب بالسنة أو لا؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي يجيب عنها علم أصول الفقه بمناهج مختلفة بين المتكلمين والفقهاء.
إذن لا مفر من التسليم بوقوع الخلاف وأن إضافة قيد فهم السلف الصالح ليس رافعًا للخلاف، كما أن فهم السلف ليس حجة أصلًا إلا في أحوال معينة كإجماعهم وكقول الصحابي الذي لم يعرف بالأخذ عن أهل الكتاب في ما لا مجال للرأي فيه،  ثم هم أنفسهم قد وقع الخلاف بينهم.
فلم يعد مفر من التعامل مع قضية الخلاف على أنها واقع لا يمكن رفعه وأنه ليس بالضرورة أن يكون الخلاف شيئًا ممقوتًا.لكن الخلاف غير جائز في مسائل الإجماع ويجوز فيما عداه.
ولابد من اعتبار ما نقل إلينا من أقوال فقهية بمثابة الثروة التي يجوز للجماعة المسلمة أن تتخير منها في كل زمان ومكان وحال ما يكون محققًا لمصالحها لأن هذه الاجتهادات ظنون وليس أحد الظنين بأولى من الآخر والظن المرجوح إذا عضدته مصلحة معتبرة فإنه لا يبقى مرجوحًا بل ينقلب فيصير راجحًا.
وربما يسأل بعضٌ فما يصنع العامي حيال هذا الخلاف؟
الجواب: العامي لا مذهب له مذهبه مذهب مفتيه فيسأل أي واحد من العلماء المعتبرين الذين يثق بديانتهم  ويعمل بفتواه.
كما أن له أن يتعلم مذهبًا فقهيًا فيعمل به برخصه وعزائمه.
وله أن يعمل بقول الجمهور.
وله أن يعمل بالأحوط، لكن ليس له أن يتخير الرخص من كل مذهب فيعمل بها اللهم إلا إذا ابتلي بشيء أوقعه في ضرر أو مشقة فله حينئذ أن يقلد من أجاز.
ما سبق من الكلام صحيحٌ في حالة الأمور القاصرة كالوضوء وصلاة المنفرد ونحو ذلك لكن ماذا يصنع العامي في الأمور المتعدية التي يكون فيها طرفًا في علاقة مع الآخرين كالبيوع والإجارات.
الجواب: يُعمل بقانون البلاد لأن حكم الحاكم في المسائل الخلافية يرفع الخلاف فإذا تخير الحاكم عن طريق اللجان التشريعية رأيًا من الآراء الفقهية وجب العمل به على عموم الناس[1] وتبقى باقي الآراء تدرس على الجانب النظري فقط في المعاهد الشرعية حتى يطلع طلاب العلم على خلاف الفقهاء وعلى مداركهم وحتى تتكون لديهم الملكة الفقهية، ولا يعمل بالقانون في الحالة التي ينقض فيها حكم الحاكم كما لو خالف إجماعًا قطعيًا مثلًا.
فإن لم يكن ثم قانون عمل بالعرف وبالفتوى التي عليها العمل في البلاد.
فإن لم يكن فيلجأ حينئذ إلى التحكيم الشرعي.
مما تقدم نستطيع أن نقول واثقين أننا كي نستطيع أن نطبق هذه القاعدة فلا بد من الإجابة عن الأسئلة السابقة التي قدمناها كنماذج فقط والإجابة كذلك عن غيرها من الأسئلة الكثيرة المشابهة التي تثيرها محاولة تطبيق هذه القاعدة. والإجابة عن تلك الأسئلة موجودة في العلوم التي نشأت لخدمة الكتاب والسنة كعلوم الحديث وأصول الفقه. والأخذ بهذه العلوم عليه عمل الأمة الإسلامية ولهم في هذا مذاهب شرعية ومدارس مرعية. إذن لم يضف رفع هذه القاعدة كشعار إلى الواقع شيئًا اللهم إلا نزاعات جديدة بين أصحابها وبين أتباع المذاهب الفقهية. والسلف الصالح لاشك أن لهم التقدير الكامل لدى سائر المسلمين، وأقوالهم حتى التي لا يحتج بها هي محل التقدير الكامل أيضًا من الفقهاء لكن على سبيل الاستئناس لا غير أو على سبيل الأخذ بها تقليدًا عند عدم القدرة على الاجتهاد لكن لا على التعيين وإنما يجوز تقليدهم كما يجوز تقليد غيرهم من المجتهدين في العصور التالية (هذا بعد ثبوت نسبة الأقوال إليهم كما أن اجتهاداتهم قد لاحظها أرباب المذاهب المتبوعة[2] وأخذوا منها ما ترجح لديهم على وفق منهاجهم الاستدلالية) .
وبقيت كلمة أخيرة: وهي أن قائل هذه العبارة إن أراد بها التنبيه على مكانة السلف الصالح وأنهم علمٌ على الاجتهاد المنضبط؛ تسمية للشيء بأهم أفراده، ولم يرد استبعاد غيرهم من المجتهدين الذين جاءوا من بعدهم واتبعوا سبيلهم بإحسان؛ فلا محذور في هذا المعنى لكن لابد من إيضاحه دفعا للإيهام.
هذا ما أردنا قوله على سبيل الاختصار كتبناه نصحًا لأرباب تلك المقولة وهم أهل خير وفضل ولهم في الدعوة إلى الله جهد مشكور وسعي غير منكور.

والله من وراء القصد
وهو الهادي إلى سواء السبيل



([1]) معنى وجوب العمل به: أي وجوب العمل بمقتضى القانون من التزام فيما ألزم به ومن تخير فيما خير فيه.
([2] ) وكل مذهب من هذه المذاهب لا يمثل عقل إمامه فحسب بل هو عبارة عن مجموع عقول ممتازة من مجتهدين ومحدثين وفروعيين وأصوليين ولغويين وغيرهم تتابعوا على خدمة وصياغة منحى اجتهادي معين في فهم الكتاب والسنة.

هناك تعليق واحد:

  1. أحسنتم فضيلة الدكتور. بارك الله في قلمكم. ولعل مقالتكم هذه تنبه إلى ما خسرناه في الجدل مع رافعي مثل هذا الشعار وما خسرناه هو هذا تحديدا، معركة الشعارات، لأن العوام تنقاد لها، بل لربما بعض من يمكن أن تحسبهم من الخواص كذلك.

    ردحذف