الاثنين، 3 سبتمبر 2012

نظرات في الاستدلال بالعدم


الحمد لله رب العالمين .. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.. سيدنا محمد الهادي الأمين صلوات ربي وتسليماته عليه وبعد:
          ففي هذه الورقة نحاول أن نعالج ضربًا من الاستدلال فشا لدى طائفة من أهل الخير والصلاح والغيرة الدينية. وهذا الضرب من الاستدلال حاصله الاحتجاج بعدم فعل المعصوم –صلى الله عليه وآله وسلم- فعلا معينًا من الأفعال على بدعية هذا العمل ومن ثم الحكم بتحريم هذا العمل أو كراهته. ومن الوفاء للحقيقة أن نقرر أنهم ليسوا مبتدعي هذا الضرب من الاستدلال بل هم مسبوقون ببعضٍ من أكابر أهل العلم إلا أنهم كانوا لا يمثلون التيار العام لدى علماء المسلمين وإنما كانوا يمثلون أقلية محدودٌ أثرها للغاية. وصحة الآراء في نهاية الأمر لا تتوقف على كثرة أو قلة فقد يكون الصواب في جانب تلك القلة وإنما الصحة تعرف بما يرجحه الدليل ويؤيده البرهان.
          ولا يخلو حال المستدل من أحد أمرين إما أن يحتج به في أمر ديني أو في أمر دينوي. ونعني بالدنيوي ما يمكن أن يستقل العقل بإدراكه –كالاختراعات ومواضعات أهل الفنون ونحوها- وقيدنا بقيد الإمكان لإدخال ما سبق الشرع بتقريره وكان بإمكان العقل أن يدركه حتى لو لم يرد الشرع به، لكن لا يتقرر الثواب والعقاب في كل الأحوال إلا من جهة الشرع لأنا لا نقول بالتحسين والتقبيح العقليين كما هو مقرر في أصول الدين. ونعني بالديني ما لا يعلم إلا من جهة الشرع كالصلوات والزكوات وسائر العبادات وكمقادير الديات ونحو ذلك.
إذا تقرر ما سبق فنقول: لا جائز أن يحتج به في الدنيويات لأنها على البراءة الأصلية كما هو متقرر في راجح الآراء الأصولية ومدار الحكم فيها على قاعدة المصالح والمفاسد ولسلطان العلماء –العز بن عبد السلام- القدح المعلى في تفصيل هذه القاعدة.
          فلم يبق إلا أن يكون الكلام منصبًا على الأمور الدينية، والدينية إما أن يتناولها نص بطريق الخصوص وإما بطريق العموم وإما بطريق الإلحاق على خلاف معتبر  في الأخير بين علماء أصول الفقه (ليس الخلاف في حجية نفس الإلحاق كدليل ولكن فيما يمكن إلحاقه). ثم هذا الديني إما أن يكون مقررًا على سبيل التوقيف كأعداد ركعات الظهر مثلاً أو لا وعندئذٍ يعطى من الحكم بحسب ما يقرره الدليل كما هو معلوم من كتب الفقه في المسائل التفصيلية.
          نعود إلى كلام القوم المبدعين فنقول: إذا تأملنا دليلهم السابق وهو أن عدم الفعل دليل على بدعية الفعل وجدناه ليس بدليل أصلاً لأن الدليل الصحيح لابد لدليليته أن يكون منتجًا وإلا كان فاسدًا، فهل المقدمات المذكورة تعطي تلك النتيجة؟ لو حاولنا أن ننظم الدليل السابق في صورة قياس منطقي لقلنا: هذا لم يفعله المعصوم، وكل ما لم يفعله المعصوم يكون مكروهًا أو حرامًا فالنتيجة هذا الفعل مكروه أو حرام. أما المقدمة الأولى فلا كلام لنا فيها إذ مدار تحققها على معرفة هل فعل المعصوم أو لم يفعل. أما المقدمة الثانية ففيها كل النقاش إذ كيف يستفاد التحريم أو الكراهة مما ذكر؟ فالكراهة والتحريم حكمان من أحكام التكليف الخمسة وأحكام التكليف الخمسة إما أن تستفاد من النص أو بالرد إلى النص.
          والنص إما أن يكون قرآنا أو سنة، والسنة إما قول أو فعل أو تقرير مما يصلح أن يستفاد منه حكم شرعي. وهنا يحق لنا أن نسأل: أين يقع عدم الفعل فيما سبق؟ بدهي ألا نجد عدم الفعل في واحد مما سبق.
فإن قال قائل: فأين يقع الكف إذن؟
قلنا: يقع تحت قسم الفعل؛ لأن كف النفس فعل من الأفعال.
أما عدم الفعل فتحته أفراد ومن جملة هذه الأفراد عدم الفعل لعدم الخطور بالبال، أو رغبة عن الشيء إلى ما هو أفضل منه مع كون المرغوب عنه جائزًا في نفسه، أو لكونه مما تعافه نفسه –صلى الله عليه وآله وسلم-؟، أو لكونه ليس من متعارف قومه، أو أنه تركه لئلا يجب أو يندب فنكثر التكاليف، أو تركه لكون المتروك مكروهًا أو حرامًا، أو لغير ذلك من الاحتمالات.
وعدم فعل أمر من الأمور بسبب كونه مكروهًا أو حرامًا هو المسمى في لسان الأصوليين كفًا، فالكف وإن كان ظاهره عدم فعل إلا أن حقيقته قصدٌ إلى الترك. والخروج من عهدة التحريم أو الكراهة يحصل بمجرد عدم الفعل ولو لم يصحبه قصد لكن لا يستحق ثواب تارك المحرم أو المكروه إلا إذا قصد إلى تركه امتثالاً أي لداعية الشرع. فإذا لم يكن ثم دليل على الكراهة أو التحريم فمن أين لنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قصد إلى الترك لداعية الشرع؟
فإن قيل: لا حاجة إلى معرفة حصول القصد من عدمه لأنه يمكن أن يُخرج من عهدتهما بمجرد عدم الفعل.
قلنا: إذا ثبت التحريم أو الكراهة جاز أن يُخرج من عهدتهما بمجرد عدم الفعل كما قلتم، لكن إذا لم يثبت فكيف يُخرج من عهدة أمرٍ لم يثبت. فلم يبق إلا إثبات العهدة بنفس عدم الفعل الذي تقولون إنه كافٍ في الخروج من العهدة. فصار العدم مثبتًا للعهدة مخرجًا منها وهو باطل وما أدى إلى الباطل يكون باطلاً.
          وثمة أمر آخر وهو كيف يكون هذا الذي لم يفعل مكروهًا أو حرامًا ولا يبينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعلوم أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فكيف يُترك البيان أصلاً فعدم البيان علامة على عدم المبين، وعدم المبين معناه أنه لا حكم يستفاد من العدم حتى يمكن أن نسحبه على فعلٍ ما. ولما كان من المتقرر لدى أهل الأصول أن لله في كل أمر حكمًا فالحكم على هذا الفعل الذي لم يفعله المعصوم صلوات ربي وتسليماته عليه يحصل بإحدى الطرق المعروفة في علم أصول الفقه إما بتقرير البراءة الأصلية مثلا أو بالإلحاق أو غير ذلك.
          فإن قال قائل: ألا يمكن أن نترك هذا الفعل احتياطا على اعتبار أن التحريم أو الكراهة احتمالان من جملة الاحتمالات فيكون الترك حينئذٍ واجبًا أو مندوبًا.
قلنا: الجواب من وجوه:
الوجه الأول: أنا لا نسلم أن هذا الاحتمال قائم بل هو بعد التأمل فيه وجدناه معدومًا كما تقرر آنفًا؛ لأنه يلزم منه أن يكون العدم مثبتًا للعهدة مخرجًا منها في آنٍ واحد وهو باطل. ولأنه يلزم منه عدم البيان وعدم البيان فيما يحتاج إلى البيان غير جائز، واحترزنا بهذا القيد الأخير؛ لأن الإجمال ربما كان مقصودًا وتكون فائدته (ووجود الفائدة غير واجب على ما هو المعتقد الحق، وإن كانت الشريعة كلها لا تخلو عن الفائدة لكن الشارع راعاها تفضلاً لا وجوبًا) حينئذٍ مجرد اعتقاد الحقية. لكن ما نحن فيه لا يفتقر إلى بيان أصلاً؛ لأنه غير موجود فكيف يمكن أن يكتسب العدم وصفًا وجوديًا؟ فلا يوجد شيء أصلا حتى يكون محلاً للإجمال. لكن المعدوم إن برز إلى حيز الوجود بفعل آحاد الناس أمكن أن نجتهد في معرفة وصفه الثبوتي عن طريق الآلة الأصولية.
الوجه الثاني: سلمنا لكن احتمال الكراهة أو التحريم احتمالان من جملة احتمالات كثيرة فلم رجحتم الأقلي على الأكثري؟
فإن قلتم: ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام.
قلنا: شرطه أن يكون الحلال والحرام كلاهما ناشئًا عن دليل حتى يحصل الاعتبار ثم التعارض. أما إن كانت الاحتمالات جميعها مجرد احتمالات عقلية غير ناشئة عن دليل فلم تكن معتبرة فضلاً عن أن تكون متعارضة.
الوجه الثالث: سلمنا رجحان احتمالي الكراهة والتحريم لكن كيف نرجح بينهما؟ إن قلنا يترجح التحريم احتياطًا فهذا يفضي إلى تحريم متوسع لم يعهد مثله من الشارع الحكيم وكل اجتهاد أدى إلى مناقضة معهود الشارع -المقطوع بكونه معهودًا له- كان باطلاً. فلم يبق إلا ترجيح الكراهة لكن هذا أيضًا يفضي إلى توسيع دائرة المكروهات بما يناقض معهود الشارع فبطل.
فإن قال قائل: لكنا نرى أئمة السلوك الصوفي يقولون: المكروه عند الفقهاء حرام عندنا، والمندوب عندهم واجب عندنا بل ربما تنزهوا عن كثير من المباحات.
فجوابه أن يقال: المكروه الذي عدوه محرمًا هو المكروه الذي ثبتت كراهته، والمندوب الذي عدوه واجبأ هو المندوب الذي ثبت ندبه وهذان غير ما نحن فيه. ثم التحريم الصوفي بينه وبين التحريم الفقهي عموم وخصوص مطلق. فالمكروه الفقهي الذي هو  جزء من المحرم الصوفي يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله لدى الجميع لكن لا ينال الثمرة –بحسب العادة- إن قارفه.
وهو في حقيقته إلزام للنفس وإرشاد أو إلزام لمن حسن الظن بشيوخ التسليك وليس إلزامًا من جهة الشرع وإنما هو إلزام كما قررنا من جهة النفس كمن التزم قيام الليل وجرب أثره فعده من قبيل الواجبات ثم حدث غيره بما حصل له من نفع فقلده ثم كان لهذا المقلد تجربته الخاصة. وهذا المسلك لا يكون فيه إنكار عام على من خالفه إذ مخالفة الإلزام ليست من المنكر في شيء ولكن يتأتى فيه الإنكار الخاص على نوع خاص كما يكون من الشيخ المربي مع المريد.
فإن قيل: لكن نفوسنا تكره أن تفعل فعلا لم يفعله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
قلنا: هذه الكراهة ليست واحدة من الأحكام الخمسة لأنها ليست كراهة الشارع وإنما هي كراهة المتشرع وهي كراهة تقابل الحب ومنشأ تلك الكراهة محبة التأسي بالمعصوم في ما يفعل من تشريع أو عادة وفي ترك ما لم يفعله. وما كان هذا سبيله فلا ينكر على صاحبه إن التزمه كسلوك شخصي لكن أيضًا لا يجوز لصاحبه أن ينكر فيه على غيره. لكن يتأتى فيه الإنكار الخاص على نوع خاص، بيد أن الإنكار الخاص ليست مرتبة مبذولة لكل الخلق وإنما هي مرتبة رفيعة لأهل الخصوص فينكرون على أهل الخصوص وهؤلاء لهم عالمهم. وقواعد ذلك العالم مقررة بفضل الله في  كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وتلك مرتبة مدار الكلام فيها على التحقق بها بشرائطها ولا تنال بالدعوى وما منا إلا وله مقام معلوم.
فإن قيل: ألا يستحق من ألزم نفسه بالإلزام السابق ثوابًا؟  فإن سلمتم بالاستحقاق يكون حكمًا شرعيًا وتثبت كراهة فعل ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو المطلوب.
قلنا: الثواب من جهة الحب لا من جهة عدم الفعل فانفكت الجهة ولم ينتج العدم حكمًا شرعيًا.
فإن قيل: إن قام المقتضي لفعله صلى الله عليه وسلم ولم يفعل كان هذا قرينة على أنه قد قصد إلى تركه فيكون منهيًا عنه.
قلنا: الحكم حينئذ بحسب ما تعطيه القرينة وهذا مما تختلف فيه الأنظار وقد تتفق، فإن تحقق في المسألة  إجماع عُمل به، وإلا فيعمل حينئذ على ما يقتضيه فن الخلاف.
وصلى الله وبارك على سيد الأولين والآخرين وقرة عيون المحبين وسلم تسليما كثيرًا

الأحد، 22 يناير 2012

تأملات في مقولة اشتهرت: "كتاب وسنة بفهم سلف الأمة"


تأملات في مقولة اشتهرت:
"كتاب وسنة بفهم سلف الأمة"

بقلم
محمد السيد محمد
الحنبلي الأزهري
أصلح الله حاله..وبلغه في الدارين آماله..









بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد الهادي الأمين وبعد فنريد في هذه المقالة أن نتناول بشيء من التحليل مقولة «لابد من العودة إلى الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح».
أقول:
لقد دأب كثير من الفضلاء على تكرار هذه المقولة والإلحاح عليها في خطابه، ويعلل هذا الفريق إصراره على هذه المقولة بأن الكل يدعي الاحتجاج بالكتاب والسنة لكن الأفهام تختلف فأي الأفهام هي التي يكون عليها التعويل؟ فالذي يرفع هذا الاختلاف هو تقييد الفهم بفهم سلف الأمة. ويذهب هذا الفريق إلى أننا إذا فعلنا هذا نكون قد حققنا ما طلبه منا  الشارع الحكيم من الرد إلى الله وإلى الرسول عند التنازع، ورفعنا الخلاف إذا كان الفهم مقيدًا بفهم السلف الصالح.
لكن الملاحظ أن هذا المنهج لم يرفع النزاع بين أصحابه أنفسهم بل لم يحصل التوافق حول فهم هذه المقولة عند التطبيق.
وهذه المقولة ترد عليها عدة أسئلة:
السؤال الأول: ما حدود المجال الذي تعمل فيه هذه القاعدة أم أنها شاملة لكل مجالات العلم الشرعي؟
السؤال الثاني: ما المقصود بالسلف الصالح؟
السؤال الثالث: ما المقصود بالكتاب والسنة؟
ولعل من المفيد أن نبدأ بالسؤال الثاني إذ هو بيت القصيد.
فنقول كلمة السلف الصالح كلمة فضفاضة ولعل قائلها يقصد بها القرون الخيرية الأولى الشاملة لجيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين.
لكن ما المقصود بفهمهم؟ هل هو إجماعهم أو قول آحادهم؟
فإن كان المقصود إجماعهم فلا شك في حجيته إن ثبت لكن ما الذي ميز إجماعهم عن إجماع غيرهم؟ فالإجماع حجة في كل عصر بتقدير ثبوته.
وإن كان المقصود قول آحادهم فلابد من التفريق بين الصحابة وغيرهم.
أما الصحابة إن كانت أقوالهم فيما لا مجال للرأي فيه ولم يعرف الصحابي بالأخذ عن أهل الكتاب فإن قوله يأخذ حكم المرفوع.
أما ما فيه مجال للرأي فقد وقع الخلاف الأصولي في حجية قول الصحابي وللعالم المحقق أن يتخير من الأقوال ما ترجح لديه بدليله.
أما غير الصحابة فلم يقم الدليل حتى الآن على حجية أقوالهم لا في الأصول ولا في الفروع.
أم أن المقصود قول المجتهد الذي انتشر ولم يعارض فيكون إجماعًا سكوتيًا؟ والإجماع السكوتي معلومٌ خلاف الأصوليين فيه وأيضًا ما الذي ميز إجماعهم السكوتي عن إجماع غيرهم؟
وثم سؤال آخر حول فهم السلف الصالح: إذا كانت النصوص منها ما هو ظني الثبوت ومنها ما هو قطعي الثبوت ومنها ما هو ظني الدلالة ومنها ما هو قطعي الدلالة، وبسبب وجود الظنية في بعضٍ تنشأ الاحتمالات التي تتوارد على الاستدلال بالكتاب والسنة. وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لنصوص الوحيين فما الذي يمنع من حصول الأمر ذاته مع أقوال السلف الصالح بعد التسليم الجدلي بحجية أقوالهم؟
فإذا انتقلنا إلى مجال هذه المقولة (وهو السؤال الأول) على فرض صحتها فهل مجالها يشمل العقائد والفروع معًا أو أنه قاصر على العقائد فقط؟
لا يجوز أن يقال بشمولها للفروع لأن الخلاف بين السلف في الفروع أشهر من أن يذكر كخلافهم في الجهر بالبسملة مثلًا.
وفي حالة خلافهم فهل يجوز المصير إلى قول جديد خارج عن أقوالهم؟
الأصوليون اختلفوا على أقوال ثلاثة:
يجوز ولا يجوز ويجوز بشرط عدم رفع القدر المشترك بين أقوالهم ولكل نظره ودليله.
ثم هل المقصود موافقتهم في القواعد والأصول الفقهية أو موافقتهم في الفروع التي بنيت على تلك الأصول؟ وما العمل لو أفضت الموافقة في الأصول إلى مخالفة في الفروع نظرًا لتغير الزمان.
ثم السنة الشريفة (هذا شروع في الكلام على السؤال الثالث) هل يقتصر فيها على الصحيح والحسن فقط؟ وما العمل في حالة حصول الخلاف في تصحيح حديث أو تضعيفه؟
وهل يطرح الضعيف بإطلاق؟
وهل يكون ساقط الاعتبار بالكلية؟
فالحديث الضعيف منه ما يكون ضعيفًا بسبب حفظ الراوي مثلًا، فهذا يكون احتمال مطابقته في نفس الأمر أضعف من عدم مطابقته.
لكن هل يخرجه هذا عن دائرة الاعتبار بالكلية؟
 الذي عليه جماهير الأمة أن الضعيف يفيد إدراكًا مرجوحًا بمدلوله، وعليه فلا مانع من الأخذ به في فضائل الأعمال؛ لأنه لاينشئ حكمًا جديداً ولكن قد يفيد ترغيبًا في الفعل أو ترهيبًا من الترك أما أصل الحكم فثابت بغيره. وكذلك يؤخذ به فيما لو وجد المجتهد قرينة ضعيفة تعاضده كشرع من قبلنا مثلًا عند من لا يراه حجة فإنه ينظر إلى مجموعهما هل يقوى على إفادة الحكم أو لا؟ فإن صلح قضى بمجموعهما ولا يكون هذا العمل تصحيحًا للحديث الضعيف ولا تقوية للقرينة الضعيفة بل يبقيان على ضعفهما وإن صلحا لإفادة الحكم بمجموعهما؛ لأن الأدلة لها من القوة عند اجتماعها ما ليس لها عند انفرادها كما يقول الشاعر:
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرًا

وإذا افترقن تكسرت آحادًا

وانفرد الإمام أحمد t بشيء زائد ألا وهو احتجاجه بنوع خاص من الضعيف وهو الضعيف الذي قد يحسنه غيره أو الضعيف الذي قارب على الحسن ولو وجد ما ينجبر به - مهما كان يسيرًا في قوته- لانجبر. وهذا النوع لأحمد فيه ذوق خاص حاصل من إحاطته بجميع السنة وكونه مجتهدًا، ولا يجوز لأحد أن يحتج بأحاديث غير التي احتج بها أحمد ثم يجعلها مذهبًا لأحمد بحجة أنها من جنس ما احتج به أحمد لأنا لا نسلم له صحة ذوقه هذا (كلامنا منصب على الأعصار المتأخرة بعد انقضاء قرون الحفظ الذهبية)، وعلى التسليم بأن ذوقه صحيح فلا نسلم بمطابقته لذوق أحمد إذ ربما لو عرض الحديث على الإمام لذكر فرقًا. لكن نقول: إن كان صاحب هذا الذوق قد وصل إلى رتبة الاجتهاد فله أن يعمل بذوقه هذا ويكون رأيًا له إلا أن هذا الاحتمال بالنظر إلى الواقع بعيد.
والسبب في ذهاب الإمام أحمد t إلى الاحتجاج بهذا النوع أنه قريب جدًّا من الحسن ومعلوم أن ما قارب الشيء أخذ حكمه، وهو خير من محض الرأي لأن الرأي تعتوره من الاحتمالات التي تضعفه أكثر من الاحتمالات التي تعتور هذا النوع المخصوص من الضعيف.
والذي قصدناه في الفقرة الأخيرة هو الأحاديث الضعيفة التي احتج بها الإمام أحمد على سبيل الاستقلال (في الأحكام) وهي كما ذكرنا خير من الرأي المحض. وهذا الأصل ما من مجتهد في الغالب إلا وقد شاركه في الأخذ به إلا أن الإمام أحمد له توسع فيه بحكم إحاطته التامة بالسنة الشريفة (وقد ذكر ابن القيم أمثلة لهذا في كتابه إعلام الموقعين)؛ فهو في الحقيقة لم يتفرد تفردًا مطلقًا في الأخذ به، ولكن بالنظر إلى توسعه فيه قياسًا إلى غيره صار كالمتفرد.
أما الأحاديث الضعيفة التي يؤخذ بها لا على سبيل الاستقلال كما في فضائل الأعمال أو في الأحكام التي وجد ما يدل عليها من قرائن ضعيفة كبعض الأدلة المختلف فيها عند من يضعفها (الضمير يعود على "بعض")، فالأخذ بها هو عمل الفقهاء ومن راجع كتب المذاهب تحقق من صدق هذا. والذي لا يفوتنا التشديد عليه أن الفقهاء احتجوا بهذه الأحاديث عالمين بضعفها ولكن ضعفها غير مانع من اعتبارها كما تقدم وإلا لساوى الضعيف الموضوع ولا قائل بهذا.

ثم يرد على الاحتجاج بالكتاب والسنة معًا أسئلة مشتركة هل دلالة العام فيهما على أفراده قطعية أو ظنية؟
وهل يجوز تخصيص الكتاب بالسنة أو لا؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي يجيب عنها علم أصول الفقه بمناهج مختلفة بين المتكلمين والفقهاء.
إذن لا مفر من التسليم بوقوع الخلاف وأن إضافة قيد فهم السلف الصالح ليس رافعًا للخلاف، كما أن فهم السلف ليس حجة أصلًا إلا في أحوال معينة كإجماعهم وكقول الصحابي الذي لم يعرف بالأخذ عن أهل الكتاب في ما لا مجال للرأي فيه،  ثم هم أنفسهم قد وقع الخلاف بينهم.
فلم يعد مفر من التعامل مع قضية الخلاف على أنها واقع لا يمكن رفعه وأنه ليس بالضرورة أن يكون الخلاف شيئًا ممقوتًا.لكن الخلاف غير جائز في مسائل الإجماع ويجوز فيما عداه.
ولابد من اعتبار ما نقل إلينا من أقوال فقهية بمثابة الثروة التي يجوز للجماعة المسلمة أن تتخير منها في كل زمان ومكان وحال ما يكون محققًا لمصالحها لأن هذه الاجتهادات ظنون وليس أحد الظنين بأولى من الآخر والظن المرجوح إذا عضدته مصلحة معتبرة فإنه لا يبقى مرجوحًا بل ينقلب فيصير راجحًا.
وربما يسأل بعضٌ فما يصنع العامي حيال هذا الخلاف؟
الجواب: العامي لا مذهب له مذهبه مذهب مفتيه فيسأل أي واحد من العلماء المعتبرين الذين يثق بديانتهم  ويعمل بفتواه.
كما أن له أن يتعلم مذهبًا فقهيًا فيعمل به برخصه وعزائمه.
وله أن يعمل بقول الجمهور.
وله أن يعمل بالأحوط، لكن ليس له أن يتخير الرخص من كل مذهب فيعمل بها اللهم إلا إذا ابتلي بشيء أوقعه في ضرر أو مشقة فله حينئذ أن يقلد من أجاز.
ما سبق من الكلام صحيحٌ في حالة الأمور القاصرة كالوضوء وصلاة المنفرد ونحو ذلك لكن ماذا يصنع العامي في الأمور المتعدية التي يكون فيها طرفًا في علاقة مع الآخرين كالبيوع والإجارات.
الجواب: يُعمل بقانون البلاد لأن حكم الحاكم في المسائل الخلافية يرفع الخلاف فإذا تخير الحاكم عن طريق اللجان التشريعية رأيًا من الآراء الفقهية وجب العمل به على عموم الناس[1] وتبقى باقي الآراء تدرس على الجانب النظري فقط في المعاهد الشرعية حتى يطلع طلاب العلم على خلاف الفقهاء وعلى مداركهم وحتى تتكون لديهم الملكة الفقهية، ولا يعمل بالقانون في الحالة التي ينقض فيها حكم الحاكم كما لو خالف إجماعًا قطعيًا مثلًا.
فإن لم يكن ثم قانون عمل بالعرف وبالفتوى التي عليها العمل في البلاد.
فإن لم يكن فيلجأ حينئذ إلى التحكيم الشرعي.
مما تقدم نستطيع أن نقول واثقين أننا كي نستطيع أن نطبق هذه القاعدة فلا بد من الإجابة عن الأسئلة السابقة التي قدمناها كنماذج فقط والإجابة كذلك عن غيرها من الأسئلة الكثيرة المشابهة التي تثيرها محاولة تطبيق هذه القاعدة. والإجابة عن تلك الأسئلة موجودة في العلوم التي نشأت لخدمة الكتاب والسنة كعلوم الحديث وأصول الفقه. والأخذ بهذه العلوم عليه عمل الأمة الإسلامية ولهم في هذا مذاهب شرعية ومدارس مرعية. إذن لم يضف رفع هذه القاعدة كشعار إلى الواقع شيئًا اللهم إلا نزاعات جديدة بين أصحابها وبين أتباع المذاهب الفقهية. والسلف الصالح لاشك أن لهم التقدير الكامل لدى سائر المسلمين، وأقوالهم حتى التي لا يحتج بها هي محل التقدير الكامل أيضًا من الفقهاء لكن على سبيل الاستئناس لا غير أو على سبيل الأخذ بها تقليدًا عند عدم القدرة على الاجتهاد لكن لا على التعيين وإنما يجوز تقليدهم كما يجوز تقليد غيرهم من المجتهدين في العصور التالية (هذا بعد ثبوت نسبة الأقوال إليهم كما أن اجتهاداتهم قد لاحظها أرباب المذاهب المتبوعة[2] وأخذوا منها ما ترجح لديهم على وفق منهاجهم الاستدلالية) .
وبقيت كلمة أخيرة: وهي أن قائل هذه العبارة إن أراد بها التنبيه على مكانة السلف الصالح وأنهم علمٌ على الاجتهاد المنضبط؛ تسمية للشيء بأهم أفراده، ولم يرد استبعاد غيرهم من المجتهدين الذين جاءوا من بعدهم واتبعوا سبيلهم بإحسان؛ فلا محذور في هذا المعنى لكن لابد من إيضاحه دفعا للإيهام.
هذا ما أردنا قوله على سبيل الاختصار كتبناه نصحًا لأرباب تلك المقولة وهم أهل خير وفضل ولهم في الدعوة إلى الله جهد مشكور وسعي غير منكور.

والله من وراء القصد
وهو الهادي إلى سواء السبيل



([1]) معنى وجوب العمل به: أي وجوب العمل بمقتضى القانون من التزام فيما ألزم به ومن تخير فيما خير فيه.
([2] ) وكل مذهب من هذه المذاهب لا يمثل عقل إمامه فحسب بل هو عبارة عن مجموع عقول ممتازة من مجتهدين ومحدثين وفروعيين وأصوليين ولغويين وغيرهم تتابعوا على خدمة وصياغة منحى اجتهادي معين في فهم الكتاب والسنة.

الاثنين، 9 يناير 2012

عن العقل الجمعي مجددًا


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العلي الماجد, الفرد الصمد العلي الواحد, والصلاة والسلام على من كانت بعثته رحمة للعالمين وعلى آل بيته الطاهرين وبعد
فظاهر أن موضوع العقل الجمعي قد شغل الإخوة الفضلاء الذين يتابعون المدونة. ونيتي وإن لم تكن متوجهة نحو مزيد كلام عنه إلا أنه لا بأس من بعض إيضاح. فنقول وبالله التوفيق: قد قلنا ما نعنيه بالعقل الجمعي حيث عرفناه قائلين: "   التفكير المتشابه تجاه بعض الأمور بين أفراد مجموعة ما بالشكل الذي يؤدي إلى التناغم في تصرفات تلك الجماعة    " فالذي يؤثر في العقل الجمعي بحسب هذا التعريف عوامل عدة منها ما يكون مؤثرًا في الحيوان بصفة عامة, ومنها ما يكون مؤثرًا في خصوص النوع الإنساني, ومنها ما يكون مؤثرا في جماعة بعينها دون باقي الجماعات, والذي يعنينا هو الزمرة الثالثة من المؤثرات. هذه المؤثرات منها ما هو تاريخي ومنها ما هو جغرافي ومنها ما هو راجع لشخص بعينه أو أشخاص باعتبارهم جزءًا من تلك الجماعة, ولكي نكون نكون أكثر تحديدا فالذي يهمنا من هذه الزمرة هو المؤثرات الشخصية ونعني بها الفرد أو الأفراد الذين ينتمون إلى جيل من البشر يحيا في إطار جماعة بعينها وإلى جيل وربما جيلين  يتقدمانه. فهذه المؤثرات الأخيرة بالغة التأثير لأنها حية سريعة متفاعلة متجددة بخلاف النوع التاريخي والجغرافي فإنه بطيء الحصول على نحو لا نكاد نشعر به لأنه يحصل في فترة طويلة حنى يمكن أن تتشكل منه ذاكرة الجماعة إلا أنه دائم ونعني بدوامه أنه يستمر لفترة طويلة, وزواله يحتاج إلى وقت طويل بخلاف التأثير السريع المتجدد (فهذا يتمكن الناس من ملاحظته) وبخاصة في السنوات الأخيرة التي تتلاحق فيها الأحداث وبالتالي ما تستتبعه من تفاعلات مجتمعية. أبرز ما يلفت انتباهنا في هذه المؤثرات هم حكماء الأمة ومفكروها والذين تنتقل أفكارهم من وراء جدران صومعاتهم وتسير الجماهير مشدودة إليها  كما حدث في المجتمعات الاشتراكية والرأسمالية فهي في الأساس فلسفات كما هو معلوم ثم سرت في عقول الجماهير. لدى المسلمين كان لدينا من هذه الطبقة الممتازة (والتشارك في الامتياز عن باقي الجماهير لا غير وليس التشارك في ماهية الامتياز) المجتهدون والعارفون والفرق بينهما أن علم المجتهد كسبي وعلم العارف وهبي ولا مانع أن يجتمع الاجتهاد والعرفان في شخص واحد كما أنه قد يكون مجتهدا غير عارف أو عارفا غير مجتهد بل قد يحصل المرء شروط الاجتهاد مع كونه فاسقا إلا أن اجتهاده في هذه الحالة يكون مقبولا لنفسه غير مقبول لغيره لعدم أمن الكذب. وفرق آخر أن المجتهد يحتاج أن يتصل بشكل ما بالجماهير لتصل أفكاره إليهم. وقد يتصل من خلال كتاب أو من خلال الوعاظ والدعاة الذين يوصلون أفكاره إلى الناس من خلال الخطب والدروس. وهذا الطبقة من الدعاة والوعاظ هي طبقة في غاية الخطورة لأنها تمثل المرحلة التي يحصل فيها التفاعل وإن شئت قلت جدلية الفكر والواقع فيؤثرون في الناس بأفكار المجتهدين ويتلقون تأثيرا آخر من الناس من خلال إمكانية التطبيق وعدمه وهل كانت الفكرة الاجتهادية قابلة للتطبيق أو لا؟ ومن خلال هذه الجدلية يتشكل جزء كبير من الوعي المشترك وبقدر مخالطة الدعاة للمجتهدين والناس بقدر ما يترقى المجتهد والعكس صحيح فالمجتهد فاعل في المجتمع من خلال أدوات الاتصال وبقدر قبول الناس لاجتهاداته وهو منفعل في  تلقيه ردود أفعال الجماهير ومن ثم محاولاته تعديل اجتهاداته لتكون أكثر واقعية ومرونة وبما لا يخرم أسوار الشريعة. أما العارف بالله فلا يتوقف تأثيره على الاتصال المعروف وإنما قد يؤثر بحاله أو بتوجيه الناس عن طريق الاتصال القلبي أو يتصرف بحسب حدود ولايته التي أعطاها الله عز وجل له والكلام فيه نؤكد مجددًا أنه خارج عن إطار كتابتنا هنا فلنؤجله حتى يأذن الله بأن نتحاور حوله سويًا.
وحتى لا نطيل وقفتنا فلنبدأ إن أذن الأخوة الأعزاء في الحديث بداية من المقالات المقبلة عن مجال من مجالات الاجتهاد المعاصر ألا وهو السياسة الشرعية. والله ولي التوفيق