الحمد لله رب
العالمين .. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.. سيدنا محمد الهادي
الأمين صلوات ربي وتسليماته عليه وبعد:
ففي هذه
الورقة نحاول أن نعالج ضربًا من الاستدلال فشا لدى طائفة من أهل الخير والصلاح
والغيرة الدينية. وهذا الضرب من الاستدلال حاصله الاحتجاج بعدم فعل المعصوم –صلى
الله عليه وآله وسلم- فعلا معينًا من الأفعال على بدعية هذا العمل ومن ثم الحكم
بتحريم هذا العمل أو كراهته. ومن الوفاء للحقيقة أن نقرر أنهم ليسوا مبتدعي هذا
الضرب من الاستدلال بل هم مسبوقون ببعضٍ من أكابر أهل العلم إلا أنهم كانوا لا
يمثلون التيار العام لدى علماء المسلمين وإنما كانوا يمثلون أقلية محدودٌ أثرها
للغاية. وصحة الآراء في نهاية الأمر لا تتوقف على كثرة أو قلة فقد يكون الصواب في
جانب تلك القلة وإنما الصحة تعرف بما يرجحه الدليل ويؤيده البرهان.
ولا
يخلو حال المستدل من أحد أمرين إما أن يحتج به في أمر ديني أو في أمر دينوي. ونعني
بالدنيوي ما يمكن أن يستقل العقل بإدراكه –كالاختراعات ومواضعات أهل الفنون
ونحوها- وقيدنا بقيد الإمكان لإدخال ما سبق الشرع بتقريره وكان بإمكان العقل أن
يدركه حتى لو لم يرد الشرع به، لكن لا يتقرر الثواب والعقاب في كل الأحوال إلا من
جهة الشرع لأنا لا نقول بالتحسين والتقبيح العقليين كما هو مقرر في أصول الدين.
ونعني بالديني ما لا يعلم إلا من جهة الشرع كالصلوات والزكوات وسائر العبادات
وكمقادير الديات ونحو ذلك.
إذا تقرر ما سبق فنقول: لا جائز أن يحتج به في الدنيويات
لأنها على البراءة الأصلية كما هو متقرر في راجح الآراء الأصولية ومدار الحكم فيها
على قاعدة المصالح والمفاسد ولسلطان العلماء –العز بن عبد السلام- القدح المعلى في
تفصيل هذه القاعدة.
فلم يبق
إلا أن يكون الكلام منصبًا على الأمور الدينية، والدينية إما أن يتناولها نص بطريق
الخصوص وإما بطريق العموم وإما بطريق الإلحاق على خلاف معتبر في الأخير بين علماء أصول الفقه (ليس الخلاف في
حجية نفس الإلحاق كدليل ولكن فيما يمكن إلحاقه). ثم هذا الديني إما أن يكون مقررًا
على سبيل التوقيف كأعداد ركعات الظهر مثلاً أو لا وعندئذٍ يعطى من الحكم بحسب ما
يقرره الدليل كما هو معلوم من كتب الفقه في المسائل التفصيلية.
نعود
إلى كلام القوم المبدعين فنقول: إذا تأملنا دليلهم السابق وهو أن عدم الفعل دليل
على بدعية الفعل وجدناه ليس بدليل أصلاً لأن الدليل الصحيح لابد لدليليته أن يكون
منتجًا وإلا كان فاسدًا، فهل المقدمات المذكورة تعطي تلك النتيجة؟ لو حاولنا أن
ننظم الدليل السابق في صورة قياس منطقي لقلنا: هذا لم يفعله المعصوم، وكل ما لم
يفعله المعصوم يكون مكروهًا أو حرامًا فالنتيجة هذا الفعل مكروه أو حرام. أما
المقدمة الأولى فلا كلام لنا فيها إذ مدار تحققها على معرفة هل فعل المعصوم أو لم
يفعل. أما المقدمة الثانية ففيها كل النقاش إذ كيف يستفاد التحريم أو الكراهة مما
ذكر؟ فالكراهة والتحريم حكمان من أحكام التكليف الخمسة وأحكام التكليف الخمسة إما
أن تستفاد من النص أو بالرد إلى النص.
والنص
إما أن يكون قرآنا أو سنة، والسنة إما قول أو فعل أو تقرير مما يصلح أن يستفاد منه
حكم شرعي. وهنا يحق لنا أن نسأل: أين يقع عدم الفعل فيما سبق؟ بدهي ألا نجد عدم
الفعل في واحد مما سبق.
فإن قال قائل: فأين يقع الكف إذن؟
قلنا: يقع تحت قسم الفعل؛ لأن كف النفس فعل من الأفعال.
أما عدم الفعل فتحته أفراد ومن جملة هذه الأفراد عدم
الفعل لعدم الخطور بالبال، أو رغبة عن الشيء إلى ما هو أفضل منه مع كون المرغوب
عنه جائزًا في نفسه، أو لكونه مما تعافه نفسه –صلى الله عليه وآله وسلم-؟، أو
لكونه ليس من متعارف قومه، أو أنه تركه لئلا يجب أو يندب فنكثر التكاليف، أو تركه
لكون المتروك مكروهًا أو حرامًا، أو لغير ذلك من الاحتمالات.
وعدم فعل أمر من الأمور بسبب كونه مكروهًا أو حرامًا هو
المسمى في لسان الأصوليين كفًا، فالكف وإن كان ظاهره عدم فعل إلا أن حقيقته قصدٌ
إلى الترك. والخروج من عهدة التحريم أو الكراهة يحصل بمجرد عدم الفعل ولو لم يصحبه
قصد لكن لا يستحق ثواب تارك المحرم أو المكروه إلا إذا قصد إلى تركه امتثالاً أي
لداعية الشرع. فإذا لم يكن ثم دليل على الكراهة أو التحريم فمن أين لنا أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قد قصد إلى الترك لداعية الشرع؟
فإن قيل: لا حاجة إلى معرفة حصول القصد من عدمه لأنه
يمكن أن يُخرج من عهدتهما بمجرد عدم الفعل.
قلنا: إذا ثبت التحريم أو الكراهة جاز أن يُخرج من
عهدتهما بمجرد عدم الفعل كما قلتم، لكن إذا لم يثبت فكيف يُخرج من عهدة أمرٍ لم
يثبت. فلم يبق إلا إثبات العهدة بنفس عدم الفعل الذي تقولون إنه كافٍ في الخروج من
العهدة. فصار العدم مثبتًا للعهدة مخرجًا منها وهو باطل وما أدى إلى الباطل يكون
باطلاً.
وثمة
أمر آخر وهو كيف يكون هذا الذي لم يفعل مكروهًا أو حرامًا ولا يبينه النبي صلى
الله عليه وآله وسلم ومعلوم أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فكيف يُترك
البيان أصلاً فعدم البيان علامة على عدم المبين، وعدم المبين معناه أنه لا حكم
يستفاد من العدم حتى يمكن أن نسحبه على فعلٍ ما. ولما كان من المتقرر لدى أهل
الأصول أن لله في كل أمر حكمًا فالحكم على هذا الفعل الذي لم يفعله المعصوم صلوات
ربي وتسليماته عليه يحصل بإحدى الطرق المعروفة في علم أصول الفقه إما بتقرير
البراءة الأصلية مثلا أو بالإلحاق أو غير ذلك.
فإن قال
قائل: ألا يمكن أن نترك هذا الفعل احتياطا على اعتبار أن التحريم أو الكراهة
احتمالان من جملة الاحتمالات فيكون الترك حينئذٍ واجبًا أو مندوبًا.
قلنا: الجواب من وجوه:
الوجه الأول: أنا لا نسلم أن هذا الاحتمال قائم بل هو
بعد التأمل فيه وجدناه معدومًا كما تقرر آنفًا؛ لأنه يلزم منه أن يكون العدم
مثبتًا للعهدة مخرجًا منها في آنٍ واحد وهو باطل. ولأنه يلزم منه عدم البيان وعدم
البيان فيما يحتاج إلى البيان غير جائز، واحترزنا بهذا القيد الأخير؛ لأن الإجمال
ربما كان مقصودًا وتكون فائدته (ووجود الفائدة غير واجب على ما هو المعتقد الحق،
وإن كانت الشريعة كلها لا تخلو عن الفائدة لكن الشارع راعاها تفضلاً لا وجوبًا)
حينئذٍ مجرد اعتقاد الحقية. لكن ما نحن فيه لا يفتقر إلى بيان أصلاً؛ لأنه غير
موجود فكيف يمكن أن يكتسب العدم وصفًا وجوديًا؟ فلا يوجد شيء أصلا حتى يكون محلاً
للإجمال. لكن المعدوم إن برز إلى حيز الوجود بفعل آحاد الناس أمكن أن نجتهد في
معرفة وصفه الثبوتي عن طريق الآلة الأصولية.
الوجه الثاني: سلمنا لكن احتمال الكراهة أو التحريم
احتمالان من جملة احتمالات كثيرة فلم رجحتم الأقلي على الأكثري؟
فإن قلتم: ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام.
قلنا: شرطه أن يكون الحلال والحرام كلاهما ناشئًا عن
دليل حتى يحصل الاعتبار ثم التعارض. أما إن كانت الاحتمالات جميعها مجرد احتمالات
عقلية غير ناشئة عن دليل فلم تكن معتبرة فضلاً عن أن تكون متعارضة.
الوجه الثالث: سلمنا رجحان احتمالي الكراهة والتحريم لكن
كيف نرجح بينهما؟ إن قلنا يترجح التحريم احتياطًا فهذا يفضي إلى تحريم متوسع لم
يعهد مثله من الشارع الحكيم وكل اجتهاد أدى إلى مناقضة معهود الشارع -المقطوع
بكونه معهودًا له- كان باطلاً. فلم يبق إلا ترجيح الكراهة لكن هذا أيضًا يفضي إلى
توسيع دائرة المكروهات بما يناقض معهود الشارع فبطل.
فإن قال قائل: لكنا نرى أئمة السلوك الصوفي يقولون:
المكروه عند الفقهاء حرام عندنا، والمندوب عندهم واجب عندنا بل ربما تنزهوا عن
كثير من المباحات.
فجوابه أن يقال: المكروه الذي عدوه محرمًا هو المكروه
الذي ثبتت كراهته، والمندوب الذي عدوه واجبأ هو المندوب الذي ثبت ندبه وهذان غير
ما نحن فيه. ثم التحريم الصوفي بينه وبين التحريم الفقهي عموم وخصوص مطلق.
فالمكروه الفقهي الذي هو جزء من المحرم
الصوفي يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله لدى الجميع لكن لا ينال الثمرة –بحسب العادة-
إن قارفه.
وهو في حقيقته إلزام للنفس وإرشاد أو إلزام لمن حسن الظن
بشيوخ التسليك وليس إلزامًا من جهة الشرع وإنما هو إلزام كما قررنا من جهة النفس
كمن التزم قيام الليل وجرب أثره فعده من قبيل الواجبات ثم حدث غيره بما حصل له من
نفع فقلده ثم كان لهذا المقلد تجربته الخاصة. وهذا المسلك لا يكون فيه إنكار عام
على من خالفه إذ مخالفة الإلزام ليست من المنكر في شيء ولكن يتأتى فيه الإنكار
الخاص على نوع خاص كما يكون من الشيخ المربي مع المريد.
فإن قيل: لكن نفوسنا تكره أن تفعل فعلا لم يفعله الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم.
قلنا: هذه الكراهة ليست واحدة من الأحكام الخمسة لأنها
ليست كراهة الشارع وإنما هي كراهة المتشرع وهي كراهة تقابل الحب ومنشأ تلك الكراهة
محبة التأسي بالمعصوم في ما يفعل من تشريع أو عادة وفي ترك ما لم يفعله. وما كان
هذا سبيله فلا ينكر على صاحبه إن التزمه كسلوك شخصي لكن أيضًا لا يجوز لصاحبه أن
ينكر فيه على غيره. لكن يتأتى فيه الإنكار الخاص على نوع خاص، بيد أن الإنكار
الخاص ليست مرتبة مبذولة لكل الخلق وإنما هي مرتبة رفيعة لأهل الخصوص فينكرون على
أهل الخصوص وهؤلاء لهم عالمهم. وقواعد ذلك العالم مقررة بفضل الله في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم
وتلك مرتبة مدار الكلام فيها على التحقق بها بشرائطها ولا تنال بالدعوى وما منا
إلا وله مقام معلوم.
فإن قيل: ألا يستحق من ألزم نفسه بالإلزام السابق
ثوابًا؟ فإن سلمتم بالاستحقاق يكون حكمًا
شرعيًا وتثبت كراهة فعل ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو المطلوب.
قلنا: الثواب من جهة الحب لا من جهة عدم الفعل فانفكت
الجهة ولم ينتج العدم حكمًا شرعيًا.
فإن قيل: إن قام المقتضي لفعله صلى الله عليه وسلم ولم
يفعل كان هذا قرينة على أنه قد قصد إلى تركه فيكون منهيًا عنه.
قلنا: الحكم حينئذ بحسب ما تعطيه القرينة وهذا مما تختلف
فيه الأنظار وقد تتفق، فإن تحقق في المسألة
إجماع عُمل به، وإلا فيعمل حينئذ على ما يقتضيه فن الخلاف.
وصلى الله وبارك على سيد الأولين والآخرين وقرة عيون
المحبين وسلم تسليما كثيرًا